“شيخ جاكسون”.. رسم المستقبل بفرشاة الماضي

617

“الباب مسكر” هي كلمة لبنانية تعني بالعربية الفصحى “الباب مغلق” لا أعلم لم تذكرتها وأنا أشاهد فيلم “شيخ جاكسون”، يمكن لأن الرسالة التي علقت في بالي من هذا الفيلم المثير للجدل، لم تكن لها علاقة بالدين أو السياسة، بل رسالة إنسانية بحتة، وهي إذا أغلق المرء الباب بقسوة أمام ماضيه وذكرياته، فلن يستطيع أن يعيش مستقبله، بل لن يكون له حياة حقيقة أبدًا.

 

في فيلم “شيخ جاكسون” تعيش مع البطل الحائر الباحث عن حقيقة نفسه تفاصيل حياته لحظة بلحظة، كما أراد المخرج عمرو سلامة أن ينقلها بشكل إنساني بسيط، فالإنسان لا يستطيع التخلي عن ماضيه أو إنكاره مهما حدث، ولكي يحيا بسلام ويواصل التقدم في حياته، عليه التعايش مع هذا الماضي وتقبله مهما كانت الأخطاء التي ارتكبها فيه.

تدور قصة الفيلم حول الشيخ الشاب الذي لا نعرف اسمه إلا في النهاية. يكتشف أنه لم يعد قادرًا على البكاء في الصلاة بعد أن سمع خبر وفاة مغني البوب الشهير مايكل جاكسون. يقرر الشاب الذهاب لأحد الأطباء النفسيين “بسمة”، وهي الجلسة النفسية التي ستكون بداية للغوص في ماضي الشاب، فهو لم يكن متدينًا بالوراثة، بل على العكس، كانت طفولته عادية، وفي مراهقته كان محبًا للمغني العالمي مايكل جاكسون، وكان يتشبه به في شكله وملابسه وطريقة رقصه، لدرجة أنه كان معروفًا في المدرسة باسم “جاكسون”،
وبسبب حياته غير المستقرة مع أبيه مدمن الخمر والعلاقات النسائية غير الشرعية، قرر السفر إلى خاله في القاهرة، لاستكمال دراسته الجامعية وبدء حياة جديدة، وهجر طفولته ومراهقته في الإسكندرية.

 

ويتحول الشاب من “جاكسون” إلى الشيخ، يعمل مهندسًا صباحًا وإمام مسجد ليلاً، ومتزوج من امرأة منتقبة تُدعى “عائشة – أمينة خليل” ولديه طفلة يحاول تحفيظها الأغاني الدينية.

بعد الجلسة النفسية يبدأ الشاب رحلة البحث حول ماضيه، فيقابل حبيبته خلال سنوات الدراسة “شيرين – ياسمين رئيس”، فيعرف أنها أصبحت مغنية أندر جراوند، ثم يزور والده في منزله بعد أن تزوج وأنجب طفلاً، ويشعر لأول مرة بمدى حب أبيه الشديد له، عندما يبكي وهو يحتضنه ويخبره أنه ينتظر تلك الزيارة منذ 15 عامًا.

 

يدرك الشاب وقتها أن العلاقة بينه وبين نفسه مبتورة، فهناك عدة شخصيات بداخله ولكنها متناقضة وغير متصالحة، الشيخ الشاب و”جاكسون” المراهق، بالإضافة إلى شخصيته وهو طفل “دودة”، كما اعتادت أمه أن تناديه.

 

وينتهي الفيلم بأن يدرك المشاهد بشكل غير مباشر أن البطل صار متصالحًا مع نفسه، من خلال عدة إشارات خفية، فلأول مرة ينظر إلى بطاقته الشخصية ويقرأ اسمه، ويسمعه من أبيه، وهو “خالد هاني عبد الحي”، ومرة عندما يعود إلى الطبيبة النفسية ويخبرها أنه أصبح قادرًا على البكاء، أو من خلال إفراغ محتويات صناديق الكراكيب التي تضم ذكرياته.

 

***
رغم قصة الفيلم التي تبدو جديدة على شاشة السينما المصرية، إلا أنه على مستوى الصورة والإخراج كان هناك ما نطلق عليه “عيوب صناعة فنية”، فالفيلم ظل طوال الجزء الأول منه مجرد أحداث غير مترابطة لا يفهم المتفرج الهدف منها، ليصبح الفيلم مشاهد منفصلة كل منها يمثل قصة قصيرة بذاتها.

 

أما الرتم الهادئ جدًا للفيلم فجعل الملل يتسلل إلى نفس المتفرج، الذي يتساءل بينه وبين نفسه “وبعدين؟!”، لتبدأ الأحداث تتحرك مع الجزء الثاني من الفيلم، خصوصًا في المشاهد الأخيرة، وكأنها المكافأة السخية على طول الانتظار لمدة ساعة ونصف.

كذلك كان هناك فقر في الديكورات والإضاءة والأماكن، فعلى الرغم من لجوء المخرج إلى تكنيك مقصود، هو البساطة في كل شيء، خصوصًا الصورة، ولكنه أضر بأحداث الفيلم، فكان هناك تفاصيل تحتاج إلى مزيد من الاهتمام لتعطي عمقًا أكثر، مثل مشهد القبر، أو مشهد الرقص في الديسكو.

البساطة في الديكورات والإضاءة امتدت إلى الشخصيات، فقصة الفيلم التي كتبها عمرو سلامة مع خالد، احتاجت فيها الشخصيات إلى مزيد من العمق والغوص في تفاصيلها، أي كانت تحتاج إلى “حبة ملح وفلفل” كي يشعر المتفرج بمدى حيويتها وتلامسها مع واقعه، إنما بدت بعض الشخصيات مبتورة لا يمكن التعاطف معها، مثل الأم، الحبيبة في المدرسة “شيرين”، أو حتى “عائشة”، كذلك الخال.

 

هذا الأمر انعكس على أداء الممثلين، فكان هادئًا جدًا وخاليًا من أي انفعال، باستثناء المبهر دومًا ماجد الكدواني في دور الأب، وأحمد مالك في دور جاكسون، فكلاهما منحا شخصياتهما مذاقًا مختلفًا، مثل الليمون الحامض الذي يجعل المتذوق ينتفض من مكانه، فهما يتحملان جزءًا كبيرًا من نجاح الفيلم.. الكدواني بصدقه وشاعريته خصوصًا في مشهد بكائه، ومالك بعفويته وبراءته، مقارنة بأحمد الفيشاوي الذي احتفظ بتعبير واحد على وجهه معظم مشاهد الفيلم، وهو الشاب الغاضب.

في النهاية -رغم تلك الأخطاء- لا يمكن اعتبار فيلم “شيخ جاكسون” سوى رسالة شاعرية إنسانية بامتياز، فكلنا لديه ذلك الماضي الذي لا نرغب في الحديث عنه، وكلنا في وقت من الأوقات أغلقنا الباب أمام ذكرياتنا رغم طرقها الشديد والمستمر، بل وحاولنا خنقها أو حبسها في غيابات النسيان، إما خوفًا وإما خجلاً وإما رغبة منا لإخفاء الألم الذي يعتري روحنا، ثم نواصل حياتنا كأن شيئًا لم يكن، وكأننا بما فعلناه أصبحنا أقوياء أمام من حولنا.

ولكن تتوقف الحياة ويدرك المرء أنه لم ينجح في مسعاه، بل فقط جمَّد لحظات من الزمن من حوله، ليبدأ الالتفات أخيرًا إلى أنَّات روحه، ويخلع ذلك القناع الحديدي، ليتصالح مع ضعفه البشري، ويواصل حياته بعد أن يعرف أنه ليس “الشيخ” ولا “جاكسون” بل هو إنسان.

 

 

 

المقالة السابقةعن الفقد
المقالة القادمةلِمَ أحبّت جنيات الغابة الإنصات إليك؟
إنجي الطوخي
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا