كلما ظن القلب أنه لم يعد من متسع للشعور بالقهر والوجع، وأنه لم يعد في الإمكان أسوأ مما كان، اكتشف أنه خاطئ، وأن الحياة ما زالت قادرة على ممارسة الخذلان بمنتهى القسوة والوحشية.
كنت قد اخترت موضوعًا ما للكتابة عنه، وقبل بدايتي اجتاح صفحات التواصل الاجتماعي خبر إعدام “ريحانة جباري” مهندسة الديكور الإيرانية، والتي كانت قد أُدينت في عمر 19 عامًا، عام 2007 بتهمة قتل موظف استخبارات إيراني سابق، قالت إنها قتلته دفاعًا عن النفس، حين حاول اغتصابها، غير أن المحكمة لم تأخذ بما قالته واتهمتها بالقتل العمد، فتم حبسها 7 سنوات قبل أن يُنفذ بها حُكم الإعدام صباح 25 أكتوبر 2014.
وقد حفّزتني تلك الحادثة المأساوية -والتي لا أخالني سأنساها أبدًا- على البدء فيما كنت أريد أن أكتب عنه، فقصص القهر يبدو أنها أبدًا لن تنتهي، وستظل النساء في كل العالم يتعرضن يومًا بعد يوم لأنواع متعددة من المهانة والظلم والسحق.
القصة التي سأحدثكم عنها هي قصة حدثت بالفعل لامرأة إيرانية أيضًا، شاهدتها منذ فترة طويلة في أحد الأفلام، وظلت من وقت لآخر تطاردني فتمنع عني النوم والفرح أحيانًا.
رجم ثريا.. فيلم سينمائي إيراني من إنتاج 2008، لكنه عن قصة حقيقية نشرها الصحفي الفرنسي- الإيراني فريدون صاحب جام، تتناول مقتل ثريا مانوتشهري ذات الـ35 عامًا في إحدى القرى بإيران عام 1986، أي قبل ميلاد ريحانة جباري بسنتين! رُبما كان على والدة ريحانة أن تتعظ وألا تُنجبها في عالم لا يعرف الرحمة ولا العدل.
الأحداث تجري في قرية نائية، إثر التغير الكبير الذي تشهده إيران، بعد نجاح الثورة الإسلامية وسقوط نظام الشاه، وتصاعد سلطات الملالي ورجال الدين، وسيادة حكم العرف والتقاليد، مقابل غياب القضاء وتضاؤل سلطة الدولة، خاصة في المناطق المتطرفة بعيدًا.
الفيلم تدور قصته حول صحفي فرنسي تتعطل سيارته في إحدي القرى الإيراينة، فتطلب منه سيدة تدعى زهرة -خالة ثريا- أن تقص عليه القصة التي حدثت في الليلة السابقة لزيارته لقريتهم لينشرها على مسامع العالم.
وتدور الأحداث حول ثريا منوتشهري، التي تعيش مع زوجها وأولادها، غير أن زوجها يتجه لعالم البغي والدعارة، وحين يرغب في الزواج من فتاة أخرى يطلب من زوجته أن توافق على الطلاق، على أن يأخد هو الولدين ويترك لها البنتين والبيت، لأنه لن يستطيع الإنفاق على زوجته الجديدة وعلى زوجته الأولى وبناته. لكن ثريا ترفض خشية الفقر وألا تستطيعتربية بناتها ومنحمها حياة كريمة.
ولأن زوجها لم يكن ليستطيع أن يتزوج من أخرى دون موافقة زوجته سواء على زواجه أو على طلاقها، كما أنه لن يستطيع أن يقوم بالإنفاق على البيتين فيتفتق ذهنه اللا إنساني على أن يلفق لها تهمة ما بالاتفاق مع “الشيخ” حسن، والذي عُيِّن ممثلاً عن آية الله خميني في تلك القرية. حيث يُدبران للزوجة عملاً في منزل رجل أرمل ثم يتهمونها بالزنا، بعد أن يهددان صاحب البيت بقتل ولده المحبوس بالسجن إذا ما أنكر التهمة.
والغريب في الأمر أن المحافظ الذي يحكم بعقوبة الرجم على ثريا وسكان القرية الذين يتطوعون للاشتراك في تطبيقه عليها حتى الموت، لا يبحثون عن 4 شهود للواقعة، ولا حتى يمارسون أي عقاب على الرجل الأرمل، رغم افتراض اشتراكه في نفس الجريمة الملفقة!
هنا يأتي أصعب وأطول مشهد في الفيلم، حيث يجتمع كل رجال القرية لرجم ثريا، بما فيهم ولداها الصغيران، بعد إقناعهما بأن أمهما زانية وتستحق الموت، ووالدها ،حتى أن والدها هو من يبدأ بالرجم.
في مشهد تقشعر له الأبدان ولا أنصح أحدًا أبدًا بمشاهدته، يقوم الجميع برجم تلك السيدة الشريفة حتى لفظ أنفاسها الأخيرة، ثم يرفضون أن تُدفن جثتها ويتركونها لتنهشها الكلاب.
فيلم”رجم ثريا” من أهم الأفلام التي شاهدتها تناقش الجرائم التي تحدث في حق المرأة، والقضية ليست فقط قضية غياب العدل أو عن شروط وأصول تطبيق حد الرجم وما إلى ذلك، القضية أكبر من كل هذا.
وبعد قصة ريحانة جباري، والتي لا أشك أنها ستتحول إلى فيلم هي الأخرى خلال سنوات قليلة لتوثق الجريمة النكراء التي حدثت، أرى أن الأمر يتعدى الظلم والتآمر الذكوري البغيض، فالأمر تمادى الطغيان ووصل إلى ارتكاب الجرائم باسم الدين، والدين من كل تلك التُهم براء.
والآن لا أجد ما هو أفضل من سطور رسالة ريحانة لأمها كي أترككم بعدها تفعلون ما شئتم، الرسالة التي أعتبرها بمثابة صفعة أو بصقة على وجه العالم الغاشم، والتي أتمنى أن يأتي اليوم الذي يقومون فيه بتدريسها بالمناهج كنموذج للكرامة والعزة والإباء، ودليل على عفونة أوطان غاب عنها مفهوم الشرف.
“العالم لم يحبنا. والآن أنا أستسلم لذلك وأحتضن الموت. لأنه في محكمة الله سوف أقوم باتهام المفتشين، وسوف أتهم القاضي، وقضاة المحكمة العليا في البلاد الذين ضربوني عندما كنت مستيقظة، ولم يمتنعوا عن مضايقتي.
في العالم الآخر، إنه أنا وأنتِ من سيوجه التهم، وغيرنا هم المتهمون. دعينا نرى ما يريده الله. أنا أحبك”.