بسنت
هل يمكنك مواجهة أسوأ مخاوفك معصوب العينين؟ كم مرّة فعلتها وأغمضت عينيك عما يقلقك فنجوت؟ كم مرّة كان عليك أن
تثق بحدسك، بحدسك فقط، وفعلتها بيقين؟
فور الإعلان عن فيلم صندوق الطائر Bird Box لـ"ساندرا بولوك" عبر تليفزيون Netflix، كنت أتجنب رؤية "تريلر"
الفيلم، ففكرة مشاهدة سيدة تبدو أمًا لطفلين تائهة في المحيط تواجه نهاية العالم مغمضة العينين، كانت تُثير فيّ الهلع. بعد أن
صرت أمًا، صارت أفلام الرعب أو الدراما المحتواة على أطفال صغار، تمثل لي تعذيبًا نفسيًا لا يزول بعد مشاهدتها بأسابيع..
لكنني قررت مواجهة مخاوفي والتحلي بالشجاعة. ضغطت على زر المشاهدة وبدأ العرض.
حسنًا عزيزي القارئ.. لن أصحبك في سطوري القادمة في جولة عن فنيات الفيلم ومشاهده وتحليل عميق لأحداثه، لست خبيرة
بمثل هذه الأمور، لكنني سأصحبك في جولة داخل شخصية بطلة الفيلم "مالوري"، تلك الأم وهذان الصغيران وكيف واجهوا
نهاية العالم وأسوأ مخاوفهم معصوبو الأعين.
دعني أيضًا أضرب عقيدتك في مقتل هذه المرة، لأخبرك بيقين أنك بعد مشاهدة الفيلم ستعلم أن الأمومة مكتسبة، وليست غريزة
على الإطلاق، وأن العالم حين يحدث وينتهي لن يكن بحاجة لقوة شر خارجية، في أنفسنا تقبع أعظم شرور العالم، وحين تتحرر
يومًا ما ستنتهي عوالمنا، كلٌّ بما كان يحمله داخل روحه.
(1)
يبدأ الفيلم بمشهد للأم "مالوري/ ساندرا بولوك" توجه لأطفالها رسالة شديدة اللهجة حول الالتزام بما ستقوله في رحلتهم داخل
النهر، وفي عدم إزالة عصابة العين، وإلا ستكون العاقبة لمن يخالف التعليمات وينظر هي الموت.. للوهلة الأولى ستتخيل أنك
أمام أم جاحدة منزوعة العاطفة.. لكنك ستدرك لاحقًا أنك أمام نهاية العالم، وأن هذه الأم تحاول عبور المحيط حرفيًا لضفة
الأمان مغمضة العين مع طفليها، لا يملكون سوى قارب قديم وصندوق به بعض الطيور التي تغرد بصوت عالِ ومزعج عند
اقتراب الخطر.
بعد ذلك يعود بك المخرج خمس سنوات للوراء، حيث الأحداث تبدو طبيعية رغم أنباء عن اجتياح فيروس غريب يجعل الناس
ينتحرون بأبشع الطرق في روسيا. لينتقل بك إلى "مالوري".. امرأة حامل تذهب مع شقيقتها لموعد فحص الجنين، الذي تكتشف
بوضوح لاحقًا أنها لا تريده، بسبب مشاعرها تجاه والد الطفل الذي هرب بلا رجعة، وذكرياتها القاسية عن طفولتها.
في الحقيقة كان هذا أول خيط يعرفك على شخصية "مالوري"، التي لا ترغب في معرفة جنس الجنين، تتجاهل تمامًا فكرة
الحمل وتغمض عينيها بإرادتها عن صورة السونار، فتخبرها الطبيبة أن هذه المرة عليها أن تنظر، أن تعلم أنها على وشك
استقبال رضيع ستصبح أمه.. حتى هنا فكل شيء يبدو طبيعيًا، المشفى والأشخاص وأخت "مالوري" المتحمسة لاستقبال
المولود أكثر منها شخصيًا.
حتى هنا تغمض "مالوري" عينيها عن مخاوفها بإرادتها.. "مالوري" ليست أمًا بلا قلب، هي فقط ليست أمًا ولا ترغب في
إبصار الأمومة داخلها.. هذا ما ستعلمه لاحقًا.
(2)
تخرج "مالوري" من المستشفى بعد الفحص، لتجد الجنون قد اجتاح بلدتها أيضًا، وأن ما سمعت عنه في الأخبار أصبح أمام
عينيها، بل طال أقرب شخص لها، أختها التي انتحرت فور خروجها للشارع وقيادتها للسيارة.
تنجح "مالوري" في الاحتماء بمنزل به بعض الأشخاص الناجين من جنون الانتحار الجماعي، لا أحد يعلم ما الذي يحدث في
الخارج، وكيف يُقضى على البشر، فقط من ينظر بعينيه يواجه أسوأ مخاوفه متمثلاً في شيء ما يدفعه للانتحار بأبشع طريقة
ممكنة.
إذا كان عليكِ الخروج بشيء من هذا الفيلم حقًا فهو مدى تعقيد النفس البشرية، كل شخصية يمكن أن يفرد لها مقالات مطولة
أيضًا.. ذلك الجبان كان الأشجع حينما تطلب الأمر، وذلك المريب الصامت كان المحب العطوف الأكثر اتزانًا على الإطلاق،
وذلك الشرير الأرعن كان صاحب وجهة النظر الصائبة، ذلك الهادئ ذو الملامح البريئة هو من أحضر اللعنة لكل من بالمنزل.
ستدرك حقًا معنى أن الجميع شريف حتى تأتي العاهرة، وأن نفسك الحقيقية حين تُنزع عنها القيود ستجمح لمنطقة لن تتخيلها.
وأخيرًا تلك الأم بالفطرة "أوليمبيا" كأنها حضرت فقط لتلقي بعضًا من أمومتها في قلب "مالوري"، بل بعد إصابتها باللعنة،
تلقي طفلتها الرضيعة -حرفيًا- في حضن "مالوري"، التي تعتني بها مع ابنها فيما بعد، بناءً على وصية الأم الراحلة.
تُعلِّم "مالوري" الصغار أن السبيل للنجاة هو أن تغمض عينيك، أن تقبع في الظلام بإرادتك، لأن أعظم مخاوفنا لا يفضل
مواجهتها ناظرين، ولأن الأقدار تحمل لك ما لن تتوقعه على الإطلاق.
(3)
خلال أحداث الفيلم ينتقل بك المخرج بخاصية الفلاش باك دون ملل، ليصل بك في النهاية إلى رحلة النجاة، حينما تتلقى
"مالوري" و"توم" الناجيان الوحيدان في المنزل، نداء الخلاص عبر اللاسلكي من أشخاص ناجين يعيشون في مكان ما يفصلها
عنهم النهر.
ليصبح عليهما اتخاذ القرار الآن بالهروب، بعد خمس سنوات من العيش معصوبو العين مع طفل ذكر وطفلة أنثى لم تسمِّهما، لا
يملكان سوى أم ترتدي قناع القوة والجمود وشخصًا هو من أنقذهما يوم الولادة وأصبح يعتني بهما "توم"، يحمل إليهما عالمًا
من الخيال والأحلام لا يرضي "مالوري"، فمن وجهة نظرها هو يعدهم بجنة لا وجود لها، لا وجود للخيال في نهاية العالم
أصلاً.. بينما يخبرها "توم" في صدق حقيقي "لا مانع من الأحلام حتى لو لم تتحقق.. هم لا يحتاجون للحماية فقط، الأطفال
يحتاجون لكِ كأم يا مالوري.. كـ أم".
تتصاعد الأحداث، تقرر "مالوري" النجاة بالطفلين عبر المحيط، للمكان الآمن الذي تحيطه الطيور، ولا علامة له سوى
أصواتهم. تصدق خيال "توم" هذه المرة بعد أن ضحى بنفسه لحمايتهم، وحينما تحل اللحظة الحاسمة خلال رحلة القارب
باختيار أحد الطفلين لينظر للخارج حتى يعبرا تيار النهر السريع بأمان، ومعنى أن تنظر في ذلك الفيلم هو أن تموت لا محالة..
حينها تنظر "مالوري" لأعين الطفلين بعاطفة ستتعرف عليها في شخصيتها لأول مرة.. فتعلم تلك اللحظة فقط أنها أصبحت أمًا.
(4)
أظن أنني أبصرت أعظم مخاوف "مالوري" من أولى لحظات الفيلم، في الوقت الذي كانت تغمض فيه عينيها طوال الوقت..
تغمضها عن حقيقة كونها أمًا.
تمر "مالوري" والطفلان بأحداث مثيرة أثناء رحلة النجاة.. لنصل لمشهد النهاية المفاجئ الذي يخبرك أن المعجزات لا تنتهي
بنهاية العالم، وللمفاجأة لا تحدث المعجزات إلا مصحوبة بالحب والعاطفة، فلم تكن لتنجو "مالوري" وطفلاها دونهما، تعطي
"مالوري" الآن الطفلين أسماءً وأحلامًا وعوالم جديدة، بعد أن صدق حدس "توم" في مكالمة النجاة، تعطي نفسها أخيرًا لقب أم،
وتنظر للأعلى لأول مرة غير معصوبة العينين.. وكأنها أخيرًا تشعر بالأمان.. فقد واجهت الأمومة للتو.. الأمومة التي كانت
أكبر مخاوف "مالوري"، ولكنها للمفارقة أيضًا كانت لها طوق النجاة.