كثيرة هي الآلام النفسية التي قد تُصيبنا في مقتل، لنصبح على أثرها مُصابي حرب، خذلتنا الحياة فانكسرنا حين لم تتحمل أرواحنا الهزيمة، غير أن أحد أشد الأوجاع النفسية التي قد نمُر بها هو الشعور بعدم الانتماء للمكان/العائلة/العلاقة/العمل/الدراسة..إلخ.
تلك الأشياء التي اخترناها بأنفسنا، ولأنفسنا، واعتدنا أن نشعر بين جنباتها بالبهجة، الطمأنينة، والإشباع، حتى ظننا أن شعورنا تجاهها سيظل كما هو، قبل أن تتغير أحلامنا وأولوياتنا ونُعيد اكتشاف أرواحنا لنجد أننا لم نعُد نفس الأشخاص، وهو ما يَصعُب التعايش معه لمن يُعانيه شخصيًا فما بال رد فِعل المُجتمعات العاجزة والعجوزة التي نعيش بها!
تلك المُعضلة كانت هي حال بطلات فيلم The Hours، ثلاث نساء تنتمين لثلاثة أجيال مختلفة تبدو حيواتهن كما لو أنها مُمتدة على التوازي، في الوقت نفسه وبشكل يُخالف كل قواعد الهندسة المُحتملة، إذا حاولنا مَد الخَط بينهن على استقامته، لطال ثلاثتهن معاً، لتبدو لنا كل امرأة جُزءً من حياة الأخرى وبناء شخصيتها!
“ساعات، ساعات،
أحس أد إيه وحيدة،
وأد إيه الكلمة في لساني مهيش جديدة”.
فيرجينيا وولف (1923)
كاتبة عبقرية سبقت جيلها بل وعصرها، مُستغلة الأشباح التي تُطاردها في خلق حالات من الإبداع تُفرِّغ بها كل العذابات التي تمُر بها، غير أن الحياة كانت أكثر ثقلاً على روحها من قُدرتها على تَحّمُّل القيود التي يفرضها عليها من حولها، ولو بدافع الحُب أو الخوف عليها.
وحين لم تستطع التخلُّص من الأصوات التي تسكُنها، قررت أن تُصادِقها، وتُصدّْقُها في كُل مرة تُخبرها فيها أنها غير سعيدة ولا تنتمي لهنا، للحياة بأكملها، وأن عليها أن تتحرر ولو بالموت، إذ أن وحده الموت هو ما يجعل الآخرين يُقدّرون قيمة الحياة أكثر من ذي قبل، ووحده الموت ما يرفع عمن حولنا ثِقل وجودنا بجوارهم، حين لا نستطيع أن نكون إلا تُعساء، ما يجعلهم غير سُعداء بالتَبَعية.
“وأد إيه منيش سعيدة،
وإن النجوم، النجوم بعيـــدة”.
لورا (1951)
تلك المرأة التي تملك الزوج الذي يُحبها، الطفل الذي يستحق أن يُفتخر به، وتنتظر مولودة جديدة تُضيف قسطًا من البهجة على البيت السعيد، ورغم كل ذلك لم تستطع يومًا أن تشعر بالسعادة! فهذا ليس مكانها، وتلك ليست الحياة التي تُشبه روحها من الداخل!
ولأنها إما ضعيفة جدًا أو قوية جدًا كانت قادرة على أخذ قرارٍ بالرحيل، الرحيل لمكان لا تعرف عنه شيئًا، وحياة لم تتضح ملامحها بعد، لعلها بذلك تستطيع أن تتحرر من كل المسئوليات والالتزامات التي تُكبِّلُها، والاختيارات التي تبدو منطقية وبديهية لكل من حولها إلا هي.
“غريبة..
نفس اللي بيفرحني ما يفرحني،
وغريبة..
نفس اللي بيريحني، ما يريحني،
وأحس إن عمري فات،
من غير ما أحب عُمري،
وأعشق الحاجات”.
كلاريسا (2001)
كلاريسا هي المرأة التي أُلقي عل كاهلها ماضي النساء اللاتي سبقوها ففاض حِملها، لأنها لا تحمل فقط أوجاعها، وهزائمها الخاصة، بل يُحمِّلها كذلك من حولها وزر من سبقوها، للدرجة التي جعلتها باتت تُصدِّق أن خَط العُمر يصل بينهن، وأنها وإن كانت لا تُشبههن في قراراتهن، لكنها ورثت نفس جينات الشعور بخيبة الأمل، وأنه مضى زمنٌ طويلٌ منذ أن كانت النُسخة الأكثر سعادة.
كانت تبدو في نظر نفسها النُسخة الأكثر جُبنًا بين الثلاثة نساء، ولعل ذلك أحد الأشياء اللاتي كانت تؤلمها، لأنها لا تعرف ما الذي عليها فعله، خاصةً وأن نفسها حائرة طوال الوقت بين ما تملك وما امتلكته ولو للحظات بالماضي.
وشاء القَدَر أن تكون ليس فقط الأكثر جُبنًا ولكن الأكثر حظاً كذلك، إذ منحتها العناية الآلهية فُرصة حقيقية لإمعان النظر وإعادة تقدير الحياة التي تنتمي إليها، ما جعلها تستطيع التغَلُّب ولو لبعض الوقت على شعورها بأنها بمتاهة لاتعرف كيف تخرج منها، مُكتسبةً الكثير من الشعور بالراحة والرضا.
“وغريبة دقة الزمن،
غريبة لعبة الساعات!”الشعور بالاغتراب بينما نحن في حُضن الوطن، أو الأشخاص الذين يَعنون لنا ذلك أمرٌ صعبٌ للغاية، لا يجب الاستهانة به أبدًا، حتى أنه أقسى ما يُمكن أن يُشعرنا بالتعاسة، حاملاً لنا بين طياته رائحة الموت.
لذا على كل من يختبره الوقوف على قَدمٍ وساق لمُواجهته، والتَغلُّب عليه، سواء كان ذلك بالمُحاربة من أجل ما نملُك حتى نعود ونستشعر السعادة التي اعتدنا أن نعيشها يوماً، أو بالرحيل -في أسوأ الأحوال- من أجل مَنح أنفسنا والآخرين فُرصة لنَيل السعادة مرة أخرى.
فما فائدة الحياة وسط مُلابسات وتفاصيل تبدو من الخارج مثالية للغاية، كما لو كُنا أبطال لوحات فنية بديعة، في حين أننا من الداخل نتآكل -حرفيًا- حتى نتحوَّل بفِعل الوقت لأشباح، تسكُن الأماكن دون أن تملُك القُدرة على الشعور يومًا أنها ما زالت على قَيد الحياة؟!