الدلوعة التي ساهمت في التقريب بيني وبين أمي

825

نشأت في منزل مصري اعتيادي، أبي يحب أم كلثوم وأمي تحب شادية، لا يصرّح أبي بحبه لأم كلثوم بشكل واضح كعادته، ولكن أمي على العكس تمامًا، منذ أن كنا صغارًا وهي تنادينا كي نشاهد معها أفلامها، نقلّب في القنوات الأرضية القليلة لنجد حفلة قديمة لشادية، فتطلب منا أن نتركها تشدو ويملأ صوتها المنزل، أخبرها أن شادية لا يليق بها الشعر الأصفر، فتدافع عنها. لذا أنا لا أعلم، هل انتقل حب شادية إليّ لأن أمي تحبها، أم لأن على من يراها ويسمعها يجد نفسه مجبرًا على حبها تلقائيًا.. ولكنني في النهاية وجدت نفسي أحبها وكفى.

 

وأنا طفلة، لم أعرف أن لقب شادية هو “دلّوعة السينما”، لكنني عندما كنت أشاهد تمثيلها، أجدها مليئة بالدلع، كبرت فعلمت أن اللقب يليق بها تمامًا، حتى أنه كان من البديهي أن تغني هي كوبليه “يا اللي ترابك كحل لعيني” في أوبريت وطني حبيبي؛ من الذي يستطيع غناء جملة بكل هذا الغنج للوطن سواها؟! وبالتأكيد كانت هي الأصلح بأن تنادي مصر بـ”يا حبيبتي”.

 

لم يستغل المخرجون في البداية طاقة شادية التمثيلية، فكانت دائمًا تؤدي دور الفتاة المرحة أو الشقية أو الدلوعة، وظهر هذا واضحًا في أفلام مثل “الهاربة” و”التلميذة” و”الستات ميعرفوش يكدبوا”، إلى آخر هذه الأفلام الخفيفة.

 

بدأت أدوار شادية في الاختلاف تدريجيًا بعد ذلك، لتقدم لنا أدوارًا أكثر نضجًا، مثل التي قدمتها في “اللص والكلاب” و”ميرامار” و”زقاق المدق” و”الطريق”. حتى أفلامها الخفيفة التي قدمتها في هذه المرحلة، مثَّلت فيها دور المرأة الناضجة ذات الدم الخفيف، مثل “عفريت مراتي” و”كرامة زوجتي” و”مراتي مدير عام”.

 

دائمًا ما كنت أرى شادية مختلفة عن باقي الممثلات، حتى في تكوينها الجسدي، فهي قصيرة مثل سعاد حسني وفاتن حمامة، وذات قوام ممتلئ مثل نادية لطفي، عُرفت دائمًا بشعر قصير أو متوسط الطول. أعترف أنني لم أكن يومًا من محبي فاتن حمامة، كنت أراها ذات موهبة تمثيليلة محدودة، أو ربما كانت تملك قدرات هائلة، ولكنها أبدًا لم تغامر مثلما فعلت سعاد حسني وشادية، كلاهما غامرتا بأداء أدوار صعبة قد يكرههما الجمهور بسببها.

 

لم ترتبط شادية في ذهني كمطربة عاطفية كما كان يُطلق عليهم قديمًا، مثل عبد الحليم أو ليلى مراد وفريد الأطرش وفايزة أحمد، رغم أنها بالتأكيد لها العديد من الأغاني الرومانسية أو أغاني الحب والغرام، ولكن حتى هذه الأغاني هي أغاني خفيفة، لا نُصاب بالبؤس حين نسمعها، ولا نسرح معها متذكرين الحبيب، بل هي أشبه بالأغاني الحالية “إن راح منك يا عين” و”قالي كلام” و”على عش الحب”، وصولاً إلى “مين قالك تسكن في حارتنا”.

 

قليلاً ما نجد أغاني شادية على القائمة المفضلة للاستماع عند أحد، فالجميع يذهب إلى أم كلثوم وعبد الحليم ووردة وعبد الوهاب وفريد الأطرش، ولكن بالرغم من ذلك، فإنه نادرًا ما تقام حفل خطوبة دون أن تشرفها شادية بأغنية “يا دبلة الخطوبة” أثناء إلباس الدبل، وكذلك فإن أغنيتها “آلو آلو إحنا هنا” حاضرة دائمًا في احتفالات النجاح والتفوق الدراسي بالمدرسة.

 

ليس هذا فحسب، فتاريخ شادية الغنائي حافل بالعديد من الأغاني التي لا يمكن وضعها في إطار سهل، فكيف يمكننا تصنيف أغنية مثل “الحنة يا قطر الندى”، أو أغنية في خفة “بسبوسة”، أو أوبريت صغير تتجاور فيه مع إسماعيل ياسين وشكوكو، لتبدو بينهما بالفعل “قطة وبطة وحامية وشطة ودايمًا أسطى ودمي خفيف”، ونظل نردد بعدها لأجيال “إحنا التلاتة سكر نباتة”.

 

قيل عن شادية إنها عملت مع المخابرات المصرية كما حدث مع سعاد حسني، ثم اعتزلت الفن والشهرة وتحجبت ولم تظهر مجددًا في الإعلام. قيل إنها اتصلت في البرامج التليفزيونية كي توضح موقفها السياسي الداعم لتيار ما ورافض لآخر، ثم انتشرت منذ عدة أيام شائعات عن وفاتها.

ولكن…

 

في الحقيقة، كل هذه الأمور لا تهمني على الإطلاق، شادية بالنسبة لي لم يعد لها وجود بعد أداء آخر مشهد سينمائي لها، والظهور لآخر مرة على خشبة مسرح، لتُخلّد في الذاكرة بكونها الصوت الساحر الدلوع، ووجه الصبية الذي لا يمكن الاكتفاء من النظر إليه. هي التي عندما أشاهدها بالصدفة على الشاشة، أتذكر أمي وهي تبكي في فيلم “المرأة المجهولة”، وتسترجع ذكريات طفولتها كلما سمعت “سونة يا سنسن جتلك أهو” من فيلم “التلميذة”، وتصر على رواية فيلم “المعجزة” لي، لأنني لم أتمكن أبدًا من مشاهدته.

 

 

 

المقالة السابقةما فعلته بنا شيرين عبد الوهاب
المقالة القادمةيا مآمنة للرجال يا مآمنة للمية في الغربال

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا