بقلم/ هديل إسلام
ليست هذه المرة الأولى التي أفكر في الكتابة عن هذا الفيلم، منذ أن شاهدته لأول مرة العام الماضي ضمن برنامج بانوراما الفيلم الأوروبي. أتذكر جيدًا أنني تابعت أحداثه منفرجة العينين على مدار ساعتين حتى لا تفوتني تفصيلة واحدة. عندما خرجت من قاعة السينما، قابلت صديقة قديمة، ركضت نحوها وعانقتها كطفلة تائهة، فقط كل ما أردته هو أن أتذكر أنني لست وحيدة تمامًا، كـ”إندري” و”ماريا”، بطلَي الفيلم المجري “عن الجسد والروح”.
“ماريا” فتاة عشرينية تعاني من الرهاب الاجتماعي، وتبدو في البداية حادة وغريبة الأطوار، ما يجعلها أضحوكة ما بين العاملين في معمل ذبح الأبقار، حيث يتولى “إندري” منصب المدير المالي، والذي يتصنَّع الصلابة طوال الوقت محاولاً دائمًا إخفاء نقصه المتمثل في ذراعه العاجزة.
خلال النهار، تؤدي “ماريا” عملها بصرامة، عقب مشهد قاسٍ تُذبح به البقرة بدم بارد، في مكان لا يأبه العاملين به سوى لتصنيف لحم البقرة المذبوحة طبقًا للمعايير المحددة. يدور نقاش حاد بين “ماريا” و”إندري” حول حتمية تطبيق هذه المعايير، وكلاهما مدرك أنهما بتركيبتهما الجسمانية والنفسية غير مقبولين طبقًا للمعايير الاجتماعية الموضوعة للبشر.
نظرًا لإصابتها بذلك الاضطراب، فإن “ماريا” لا تستطيع الاندماج مع بقية زملائها في مكان عملها، وأحيانًا ما تخيفهم بردودها الجافة ونظراتها الحادة. لكن عندما تكون بمفردها، تخلق حوارات سلسة وبسيطة ومباشرة بين ألعابها، لتصطدم دومًا أن الواقع ليس كذلك.
أما “إندري”، فقد أغلق صفحة الحب منذ سنوات. يعيش وحيدًا ويأكل وحيدًا، وعندما يُذكِّره عجزه أن حمل صينية الطعام قد يفوق قدراته أحيانًا، فإنه يذهب إلى المطعم وحيدًا. لكن ما أن يحل الليل، يتشارك كل من “إندرى” و”ماريا” حلمًا واحدًا، يتحولان خلاله إلى غزالين جميلين الهيئة طليقين الحركة ويمرحان في الغابة، كأنما يعوضان نقصهما في دفء هذا الحلم وإن سادته الثلوج.
في البداية كانت الحدة هي عنوان أي حوارات تنشأ بين بطلي الفيلم، إلا أن هذا الحلم المشترك يخلق طريقًا لهاتين الروحين المتعبتين، وهذا الطريق يجدد رغبتهما في الحياة بعد أن كانا مجرد جسدين مُنهَكين يعيشان حياة روتينية وكأنهما جسدان بلا روح. لكن بعد أن يعرف الحلم طريقه إلى روحيهما، تبدأ “ماريا” في التعرف على جسدها ورغباتها والعالم من حولها من جديد بشغف طفلة لم تتجاوز الثامنة، فيما يعود “إندري” شابًا متحمسًا مجددًا، رغم التجاعيد التي تملأ وجهه والعجز الذي يذكره دومًا بقلة حيلته.
يتعامل كل منهما مع هذا الحب على طريقته، أحيانًا ببعض التعلق وأحيانًا بالرفض والمقاومة، إلى أن يأتي المشهد الأهم والذي يمثل ذروة علاقتهما، وهو مشهد ممارسة الحب، إذ يلتحم جسداهما وروحاهما ويكتمل نقص كل منهما بوجود الآخر، خصوصًا عندما تمد “ماريا” (التي طالما أصابها الهلع ما أن يلمسها أحدهم) يدها لتمسك بذراع “إندري” العاجزة، في لقطة بسيطة تلخص كل شيء. هكذا أصبح النقص الذي احتُبِسا بداخله طويلاً هو ما يكملهما.
تكمن روعة “عن الجسد والروح” في أنه فيلم بلا حصان أبيض وأمير ثري ورومانسي وأميرة تقطر رقة وجمالاً. على غير المعتاد، فهذا الفيلم يحتفي بالوحيدين المنبوذين ممن لا يأبه الكثيرون لأمرهم في الواقع الذي نعيشه. لكن الأمر لا يقتصر على “إندري” و”ماريا” ومن يشبههما، هذا الفيلم يمنحنا جميعًا فرصة مشاهدة هشاشتنا وانهزاماتنا تتجسد على الشاشة، باختلاف طبائعنا وشخصياتنا. فمن منا لا يحمل بداخله نقصًا أو عجزًا ما يخيفه خلف أسطورة القوة والصلابة وحتمية الانتصار حتى في المعارك التي لم نخترها.
ورغم سذاجة الفكرة، سيبقى أملنا هو أن نجد من يشبهنا بطريقته الخاصة، من يمكننا التعري أمامه دون أن تتحول الأمور إلى معاناة أكبر. ومع قصة هذا الثنائي، يتجدد أملنا نحن أيضًا بالحق في الحب والحياة، وأن نجد من قد تكتمل معه أرواحنا وأجسادنا رغم كل شيء.