لا زلت أذكر التفات رأسي وتعلُّق عينَي وأنا صغيرة، بالألوان الزاهية في أفيشات زجاجات الكوكاكولا وصابون ساڤو وشوكولاتة چيرسي الواكلة الجو، لا زلت أذكرها تملأ ترام الإسكندرية وجدران شوارعها، خصوصًا بجانب سينما مترو وسينما ستراند، واللتان كانتا من أشهر سينمات الإسكندرية آنذاك. لا زلت أحفظ أغلب إعلانات الشمعدان عن ظهر قلب، وكلما صادفته في أحد الأكشاك، رددت اللحن بدون تفكير.
لم أقتنع أبدًا بفكرة أن الإعلانات مجرد أفيشات أو فيديوهات قصيرة، تمر مرور الكرام في حياتنا، بل أراها جزءًا لا يتجزأ منا، تُشكِّل وعينا، وتحوي في طياتها الكثير من ذكرياتنا، لتلتصق في أذهاننا، ليس فقط بالمنتجات التي تُعلن عنها، وإنما بلحظات حياتنا التي ترتبط بهذه المنتجات، ولذا كنت ولا زلت مغرمة جدًا بمتابعتها.
بدأت حركة تطور الإعلانات مع ظهور اختلافات واضحة في تفكير المشاهد المصري، وتوجه الشركات لمخاطبة فئة الشباب تحديدًا، بعد بروز دورهم وأهميتهم باعتبارهم أغلبية، لذلك يطبع على الإعلانات الجديدة طابع شبابي ظريف، يجعلنا نضحك عليها بشدة، ولا يحرم الكبار من فهمنا، لكن هذا لا يمنع رغبة الشركات المُعلنة الواضحة في الوصول لكل الفئات، وهو ما جعلها تتبارى في إبراز قدرتها على تعليق أذهان المشاهدين بالمنتج، وما زالت وستظل في تطور مستمر، لدرجة حولتها من مجرد إعلان لفيلم قصير، مقتبسة في كثير من الأحيان من قصص في واقعنا، وتهتم بحب المصريين للضحك، وتظهر مثل هذه الإعلانات في أوقات محددة من العام، يهتم فيها المشاهد المصري بمتابعة التليفزيون، مثل رمضان، لنرى مادة ثرية جدًا من الإعلانات ونحن لا زلنا في السادس منه، ولدسامة هذه المواد الإعلانية، قررت أن ننتقي منها أكثرها لفتًا للانتباه، سواء بمدى جمالها، أو بمدى سوئها.
***
(١)
لا تُخيِّب شركة نسكافيه أملي فيها أبدًا، ولا ينتقص شيء من حبى لإعلانتها سنة تلو الأخرى، بدايةً من استعانتها منذ ثلاث سنوات بباند وسط البلد ليغني هاني عادل “ابتديها مع نسكافيه”، ويتحدث عن معاناة كل شاب في المعافرة مع الأحلام، مرورًا بإعلانات التخصصات الجامعية غير المفهومة للكبار كـ”إعلان في إعلام”، وحتى إعلاناتهم هذا العام.
شاهدت لنسكافيه هذا العام ثلاثة إعلانات، أحدها لشلة أصدقاء يجلسون أمام الكتب والملازم في محاولة بائسة للمذاكرة، ليحاول كل منهم التملص منها بأعذار واهية، أحدهم يرغب في شراء وصلة للابتوب، والآخر يريد شراء عشاء، والثالث يريد أن يأخذ حمامًا ينعشه ويساعده على المذاكرة، ليستقروا نهايةً أنهم سينامون ويستيقظون الفجر ليذاكروا، مؤكدين أنهم “طيور نهارية” أو إيرلي بيردز.
والآخر عن شلة أصدقاء تحاول حضور محاضرة مهمة، لكنهم يتركونها بإلحاح من صديقهم لتناول الشاورما مدعيًا أنهم لن يستطيعوا التركيز شاعرين بالجوع، ثم يقررون الذهاب لمنازلهم بما أنه قد فاتهم أكثر من نصف المحاضرة.
وأما الأخير فهو عن بعض الأصدقاء الذين يحاولون المذاكرة، لكنهم ينتهون بأحدهم ممسكًا بهاتفه متصفحًا للفيسبوك، والآخر يلعب بلاي ستيشن، أما الثالث نائم، لتكون رسالة الإعلان في المرات الثلاث هو أن شرب النسكافيه يحمسك ويدفعك للمذاكرة.
وأكاد أجزم أنني في كل مرة أرى نفسي في هذه الإعلانات، حتى بعد أن تخرجت والتحقت ببرنامج الماجستير، ما زلت أخبر أصدقائي أنه يجب أن ننام ونستيقظ فجرًا، أو أن محاضرة الدكتور لن يفوتنا منها الكثير إن تركناها من أجل الشاورما، ما زلت أراني ممسكةً بهاتفي أتصفح جروبات الفيسبوك بلا هدف مدعيةً أنني أزور جروب الدفعة لأتحرى المنهج.
أبدعت نسكافيه ولا شك في ربط منتجها بأذهان كل طالب مصري، الكبار منهم والصغار، حديثي التخرج ودفعات القدامى، وهو ما ينم عن ذكاء إعلاني متميز، لأنها التزمت بمبدأ “اعرف جمهورك”، وخاطبته بما يمسه، ليصبح النسكافيه المشروب الرسمي لكل طالب مصري.
(٢)
يرى الكثيرون أن إعلان عمرو دياب سيئ، نظرًا لأنه لا يقدم جديدًا، لكن لمواليد الثمانينيات والتسعينيات، لا شك أنه من أعظم الإعلانات الحالية.
لا زالت قلوبنا معلقة بكليب راجعين، حيث ظهرت غادة عادل موديل لأول مرة، وفيلم آيس كريم في جليم، حيث يخطف عزت أبو عوف قلب سيمون من حب عمرو، ويمشي أشرف عبد الباقي في الشارع قائلاً “هي دي النهاية يا زرياب”.
يخطئ من يظن أن عمرو دياب يتحدث عن تاريخ يخصه، أو عن ذكريات تتعلق به وحده، بل هي ذكرياتنا معه، نحن من انتظرنا ألبوماته بفارغ الصبر، من حفظنا أغانيه عن ظهر قلب، وارتبطت قصص حبنا الأولى به، وجمعنا أغانيه في شرائط كوكتيل لنسمعها في “الواك مان”، ومشينا على البحر في برد الشتاء القارس نغني “الناس حاسين بالبرد.. وف قلبي ده شم نسيم”.
لم تعجبني إعلانات فودافون في أغلب الأوقات، لأن جمع عدد كبير من المشاهير في مكان واحد ليس بالإنجاز، لكن هذه المرة اعتصرت قلبي بشدة، وذكرتني بطفولة متشردة ومراهقة عذبة، فلأول مرة تستخدم النوستالجيا أو الحنين للماضي لتسويق منتجاتها، وقد سبقها في هذا بيبسي، ورغم اعتبار البعض هذا عيبًا تسويقيًا كبيرًا في كثير من الإعلانات، فإنني أقبلها تمامًا، ولا أعتبرها متاجرة بالذكريات بقدر ما أعتبرها قدرة على لمس وتر حساس لدى المشاهدين.
(٣)
لم أحب قط إعلانات التبرعات في رمضان، وأشعر بسببها بالابتذال الشديد، فرؤيتنا لأسرة بيتها بدون سقف، وطفلة تمشي مسافات سفر لتحصل على مياه صالحة للشرب، أو لطفل هزيل على سرير المرض ليست -في رأيي- الطريقة المثلى للحث على التبرع، لكن تأتي مؤسسة مجدي يعقوب لتحطم كل هذا، وتمس إنسانيتنا برُقي وتلمس “قلوبنا” برقة كل عام.
يجعلك إعلان مؤسسة مجدي يعقوب هذا العام تدرك مدى أهمية القلب في حياة المصريين، فهو ليس ضروريًا للحياة فقط لأنه يضخ الدم لكل الجسم، وهو المسؤول عن كل شيء فيه، بل لأنه أيضًا يمتلئ بالمشاعر، تخاف به الأم على أولادها، وتستشعر الخطر المحدق بهم، ينكسر من الحب ونسعى جاهدين لتجبيره، لنقع في الحب من جديد. يكون دليلنا في كل الأوقات، يجفل وينقبض من المجهول أو المخيف، ويملأ صاحبه بالأمل والشجاعة في سعيه لتحقيق أحلامه، يتألم من ألمنا على أحبائنا، ويفرح بفرحنا بهم، ولذلك يحفزك لا محالة على إنقاذ قلب طفل، لتساعده في أن يحب ويتألم ويحلم، لينضج ويخوض تجربة الحياة بقلب سليم.
***
بالنسبة لي كانت هذه الإعلانات أبرز ما شاهدت إلى الآن، وبالطبع لن يكفي المقال لتناول غيرها من الإعلانات المميزة، كإعلان بنك مصر وإعلان البنوك المميكنة الذي أوقعني في حب الإفيه “هنقوله السطو مش شغال يا شربيني!”، لكن هذا لا ينفي الكوارث الإعلانية كإعلان قطونيل أو إعلان مدينتي، والحماسة الفظيعة التي تتملك الفنانة أصالة في غنائها عن ذكرياتها عن الغرام في مدينة تم تأسيسها في الألفينات، حيث لم يكن هناك مجال زمني أو مكاني لتكوين أي ذكريات، أو حتى مجال مالي! لكن هذا لا ينتقص من قيمة الإعلانات وتطورها حاليًا، واعتبارها قصصًا فعلية من واقع حياتنا.