أن تبدع الآن خير من ألا تبدع أبدًا

1659

أجلس لأشاهد إحدى روائع شركة بيكسار العالمية في أفلام الكارتون، فيلم الفأر الطباخ أو خلطبيطة بالصلصة "راتاتوي"، أتوقف كثيرًا
أمام مشهد يتحدث عن الإبداع، الفأر المبدع في الطهي وقد قارب على الإحباط، فإذا بصوت الشيف جوستو الملهم يقول له "سيبك من
التقاليد وسيبك من الأصول، المهم إنك حابب،  الإبداع فى الطبخ محتاج لشجاعة، لازم تبقى مبتكر وقلبك جامد،  لازم تجرب حاجات
وممكن متنفعش، متسمحش لأي حد يحجمك ويتحجج بأصلك وفصلك،  روحك هي اللى بتلهمك،  ده مش تهريج، أي حد يطبخ بس اللي
قلبه جامد، هيبقى عظيم".

ينتهي المشهد وينتهي الفيلم وما زالت الجملة السابقة من الحوار تتردد في ذهني، إذا حذفنا كلمة الطبخ ووضعنا أي مجال آخر ستفي
بنفس الغرض، إن الإبداع محتاج روح ملهمة، وشجاعة في التجربة، والخروج على القيود التي تربطنا بالمفروض واللازم.

لمدة سنوات عملت صحفية في جريدة شبابية، كنت متخصصة في الكتابة عن القصص الملهمة والحكايات التي تبث النور في الروح
والعقل، في النهاية وجدت الرابط بين كل هذه القصص، جراءة وإبداع أصحابها كل في مجاله، البحث عن الشغف الحقيقي بعيدًا عن
دراسة مرغوم عليها أو عمل روتيني لتوفير "لقمة العيش"، في مرحلة ما أصحاب هذه الحكايات جميعهم تمردوا واختاروا أن يبدؤوا في
تنمية إبداعهم مهما كانت مكانتهم الاجتماعية أو مجالات عملهم أو حتى سنوات عمرهم.

– هذا شيف عظيم، دراسته في الأصل الطب والجراحة، ولكنه بعدما مارسها وتخصص بها لسنوات، وجد شغفه وإبداعه الحقيقي في
الطبخ، بين روائح ومذاقات الطعام.. فامتلك الشجاعة الكافية ليحول مهنته من طبيب لشيف. الآن أصبح من أشهر وأفضل الشيفات على

شاشة التليفزيون، يمتلك مطعمًا يطهي فيه الطعام بنفسه، ويشرف على كل شيء بداخله، تحلّى بالشجاعة ليخلع بالطو الطبيب ويرتدي
مريول المطبخ.. بكل أريحية وعشق.

– صديقة ليّ تخصصت في المحاسبة، درست التجارة وعملت بها لمدة 7 سنوات، وصلت لمكان ومكانة في مجالها يحلم كل شاب بها،
ولكن.. في إحدي المرات شاهدت إعلان لدورة تدريبية في تصميم الأزياء، كنوع من حب التجربة التحقت صديقتي بالدورة، يوم بعد آخر
كانت تتألق وتتوهج بالفعل، حماس وحيوية وانطلاق، وجدت حلمها الحقيقي وطورت موهبتها في الرسم لتصبح مصممة أزياء رائعة
ومشهورة في مجالها، لم تتوقف كثيرًا أمام عبارات اللوم بأنها ستصبح مجرد خيّاطة، ولم تتردد كثيرًا في اكتشاف الإبداع بداخلها بعد 7
سنوات في مجال مختلف تمامًا.

– سيدة أربعينية لم ألتق بها إلا مرة واحدة، ولكنها تركت في نفسي أثرًا كبيرًا، تحكي لي أنها كانت مثالاً للأم الروتينية المحبطة والمثقلة
بهموم الأبناء الخمسة والمنزل، كانت تعاني من زيادة الوزن وتعمل في مجال الترجمة، بمعنى أدق وجدت فرصة العمل بالصدفة من
المنزل، لم تكن من عشاق الكتابة، ولكنها أخذت تجرب.

كانت تترجم كتبًا وروايات، تحدثني أنها أخذت تقرأ آلاف الكلمات وعشرات الكتب بحكم العمل، قرأت قصص نجاح في مجالات مختلفة،
وأشخاص أصبحوا مبدعين وتغيرت حياتهم لأن لديهم إرادة وصدق مع النفس، كانت تتساءل يوميًا: لماذا لا يمكنني أن أصبح مثلهم؟ إلى
متى سأظل أقرأ هذه الحكايات وأترجمها وأنبهر، بعد سنوات قليلة أصبحت هذه السيدة مثالاً للياقة البدنية والنجاح في إنقاص الوزن
والمشاركة في مسابقات عالمية، تحولت من زوجة محبطة لامرأة يفتخر بها أبناؤها، بدأت تدوّن وحصلت على عمل كاتبة، وجدت في
نفسها إبداعًا مختلفًا في مجال الكتابة والتدريب، وما زالت تتألق من نجاح لنجاح، أتابعها عبر موقع التواصل الاجتماعي بحب وفخر أنا
أيضًا.. فخر أنها أصبحت حكاية ملهمة مثل التي كانت تقرأ عنهم.

حتي المشاهير والعظماء على مرّ العصور، معظمهم اكتشفوا إبداعهم متأخرًا، ولكنهم لم يلتفتوا كثيرًا لهذا الأمر، فما دمت وجدت شغفك
الحقيقي، ستسعي لتبدع فيه وتتميز حتى لو كنت على فراش المرض أو في سن الشيخوخة.
عادة يعطي الإبداع طاقة وعمرًا إضافيًا لعمر صاحبه.. حكايات كثيرة تخبرنا بشيء واحد فقط، أن قطار الإبداع لا يفوت، بل ينتظرك في
المحطة المناسبة لتصل محملاً بالمهارات والأدوات اللازمة لتنطلق.. ابحث عن المبدع بداخلك وستجده مهما طال الوقت.

المقالة السابقةاصنع كتاب التلوين الخاص بك وأطلق الفنان بداخلك
المقالة القادمةجيمي أوليفر.. الساحر الذي غيّر بعصا إبداعه حياة الآخرين
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا