“كيف ضعفت في نهاية المطاف
وارتحت في عينيك من عبئي
وكل شيء حولنا يُملي علينا أن نخاف؟!”
تسكن تلك الحروف قلبي، وتقبع داخله حين كان صغير السن.
أستحضر تلك اللحظة التي طويت فيها كتاب “مختارات من شعر أمل دنقل” بعد أن انتهيت من ملء الفراغات التي داخلي بكلماته، سطرت الجمل الثلاث تحديدًا أمامي.. دوّنتهم في هوامش الكُتب.. في حواشي دفاتري السرية.. وفي مقلتي عيوني، أراهم وأعيش بدواخل المعاني التي انعكست على عمري الصغير وقتها.
ذات الثامنة عشر تبحث عن الحب الكامن في قلب الخوف، باتت تحلم بالقصة المستحيلة، بالمغامرة التي ستُؤمّن لها السعادة الكاملة، نظم “أمل” تلك الكلمات في قصيدة “رباب” وحفظتها هي بعقلها السائر نومًا وراء قلبها الحالم بصعاب الحب، وببطل يُلقي بأثقاله الدنيوية ويجد بالعينين البُنيتين راحته.. قبعت في انتظار الحب، وحين جاءها الحب قبع ينتظرها.. حتى جاءت لحظتهما السحرية وصارا معًا.
****
“دائمًا أنت في المنتصف!
أنت بيني وبين كتابي
وبيني وبين فراشي
وبيني وبين هدوئي
وبيني وبين الكلام
ذكرياتك سجني، وصوتك يجلدني
ودمي قطرة -بين عينيك- ليست تجف
فامنحيني السلام!
امنحيني السلام!”
أنسى “أمل” في غبرة سنوات الزواج.. أضعت “أمل” ونسيت أنني أضعته.
نسيت الكلمات المتشابكة في ذاكرة المراهقة، المدونة في أوراق مُختبئة في طيات الماضي الرقيق.
مبهرة هي الومضة التي جعلت الكلمات تطفو بعقلي من جديد، أعادتني إلى الحالمة التي طالعت تلك الأحرف مرارًا، حتى رددتها غيبًا كالمسحورة، ظللت أبحث عن كتابي بين ما جلبته من غرفتي الصغيرة إلى غرفتي الكبيرة بما فيها.. لا أثر لمن كتب يومًا “هل ترى؟ هي أشياء لا تُشترى” في قصيدته الأشهر “لا تصالح”.
أين اختبئت من عيناي؟
ألم تسترح فيهما قبلًا؟!
بحثي في الغرفة القديمة كان أصعب، فالتفاصيل تبدلت بعد سنوات من الفراق ولم يعد للمستي أثرًا، ولم أجده.
اختفاءه أحزنني وابتلعني الحنين للكتاب الأخضر الباهت.
****
“أنا أحببتك حقًا
إنما لست أدري
أنا.. أم أنت الضحية؟
فاستريحي، ليس للدور بقية”.
ثرثرة وتناثر ذكريات.
ضحكات مختزنة بداخلي أنا وأختي تعود بنا إلى الوقت القديم، إلى وقتٍ لم نتآكل فيه من العمر بعد.
أسألها عنه وتجيبني بأنه معنا الآن في أرفف مكتبة منزلها الجديد.
ملمسه لم يتغير، باهتًا مهترئًا من كثرة قراءتي له.. ركضت وراء أوراقه في سرعة.
آثار خطوط قلمي الرصاص المحبب ما زلت حية بداخله، الكتاب الوحيد الذي دنّسته بكلماتي.. وضعت خطوطًا تحت مقاطعي المفضّلة، ومهرت غلافه الداخلي باسمي.. لقد فتحت بابًا يعود بي إلى تلك الفتاة التي كانت تجلس وحيدة في متسع عالمها الخاص، لا أحد يقتحمها.. لا أحد يقيمها، هي ولا أحد سواها.. هي و”أمل دنقل” والأحلام النافذة إلى قلبها مباشرة.
رافقني أخيرًا إلى حوائط منزلي وطالعته مرة أخرى زوجة وأمًا في السابعة والعشرين.. تلك المرة مختلفة، ما أسر عيني قبلًا يختلف عما أسرها الآن، اختلفت رؤيتي للقصائد وانتقى قلبي هوى آخر يسكنه.
“ابتسمي يا طفلتي
ثرثري
صوتك موسيقى حكت صوتها ذا النبرات المُدفئة”
رأيت فيها ابنتي وذيّلت صورتها بكلماته الدافئة، أهديت لها تلك الكلمات حين أتمت الخامسة، وتمنيت أن أُهديها الكتاب يومًا لتراني فيه.
“مصفوفة حقائبي على رفوف الذاكرة
والسفر طويل
يبدأ دون أن تسير القاطرة
رسائلي للشمس..
تعود دون أن تمسَّ!
رسائلي للأرض..
تُرد دون أن تُفضّ!
يميل ظلي في الغروب دون أن أميل!
وها أنا في مقعدي القانط
وريقةً.. وريقةً.. يسقط عمري من نتيجة الحائط
والورق الساقط
يطفو على بحيرة الذكرى، فتلتوي دوائر
وتختفي.. دائرةً.. فدائرة!”
رأيتني فيها وأدركت أن عمرك يمضي كعمري.. حزنك يماثل حزني وقلبك له نبضي.
أنت تشبهني في الحزن.
أبدًا لم تخذلني يا “أمل”.
لتكن معي دائمًا.
لا فراق.
******
“العالم في قلبي مات
لكن حين يكف المذياع وتنغلق الحجرات
أخرجه من قلبي، وأسجيه فوق سريري
أسقيه نبيذ الرغبة
فلعل الدفء يعود إلى الأطراف الباردة الصلبة
لكن.. تتفتت بشرته في كفي
لا يتبقى منه سوى.. جمجمةٍ.. وعظام!
وأنام!”.