فتاة جميلة تتلكأ في ملء جرة الماء من النهر حتى تقف أمام عازف الناي قليلاً، تسألها أختها عن مراده فتجيبها أنه لا بد ولهان.
فتاة أخرى جميلة، تخبيء الروايات الرومانسية داخل كتاب المطالعة، تتعلم البيانو ودروس الفرنسية حتى تنطق جملة “أنا أحب الملوخية بالأرانب المقلية” بفرنسية سليمة.
فتاة ثالثة جميلة جداً، قررت أن تكون العدالة التي تنتقم من مهندس الري الذي خدع الأولى حتى قتلها الحب، واستهتر بالثانية حتى تركت البلدة الهادئة مع أهلها بعد فسخ الخطبة.
“صوته بيزعلك ليه.. ده حتى بيقول الملك لك لك يا صاحب الملك”..
“لا يا سيدي، ده بيقول أشكيه لك لك يا صاحب الملك”..
دعاء الكروان، من الأفلام القليلة التي نجحت في أن تجبرني على المثول أمام اليوتيوب صاغرة حتى أشاهده عندما افتقدته على قنوات التليفزيون الأرضية منها والفضائية. عندما افتقدت صوت الكروان واكتشفت أنه فات أكثر من عام منذ آخر مرة شاهدته فيها، الفيلم الذي يجعلني رغماً عني سعيدة رغم كل البطلات الحزينات فيه.
عندما أشاهد فيلم دعاء الكروان، أنجح في فصل أجزاؤه عن بعضها، فمثلاً أظل مبتسمة طوال فترة عمل آمنة في بيت المأمور، أتناسى تماماً ما سيحدث لاحقاً، أنبهر معها بالـ”بيانا” التي تدق مثل “طبل علي أبو براهيم”، وأعجب بفساتين خديجة وأتأثر معها بالروايات الرومانسية التي تقرأها ويخفق قلبي عندما تعرف أن والداها يدبران لها عريس.
ثم أظل مترقبة في الجزء الذي ترحل فيه هنادي وآمنة مع أمهما، ينكسر قلبي لمنظر هنادي الصامتة المنبوذة، أدعو لها أن تسامحها أمها وأتناسي تماماً كلمات ضاربة الودع التي تقابلهم في بيت العمدة “واحد من دمك بيريدك وهيأذيكي، وواحد أذاكي وروحه فيكي، قدامك سكة سفر، يفك ضيقتك ربنا ويغنمك السلامة قادر يا كريم”، أتفاجىء تماماً في كل مرة بموقف خالها، ليس هكذا الخال الذي أعرفه، يرمي لحمه في الصحراء ثم يعاقبه عندما تنهشه الذئاب، في كل مرة ينغرس الخنجر في صدر هنادي ينقبض قلبي وتصرخ زهرة ويغشى على آمنة.
“داري يدك يا خال، دم هنادي بينقط منهم”..
تتبدل آمنة، الفتاة الصغيرة التي تستمع لحكايات خديجة وتشاركها الروايات المختلسة، التي تفرح بأثواب بنات البندر والفساتين الضيقة، التي تقرر أن تنتقم لأختها فتعصب رأسها بضفيرتان متقاطعتان وكأنه حداد على هنادي التي غدرها الحب قبل أن يغدرها الخال، تشق قلبي زهرة، الأم التي فقدت ابنتيها، واحدة قتلت حباً والثانية هربت بعد أن وصمتها للأبد بالقسوة واتهمتها أنها قتلت هنادي.
تتحول آمنة، أتحول معها، أراقبها توقع مهندس الري في هاوية الحب، أتعاطف مع زنوبة المرأة التي يكرهها أهل البلد “لسانها زالف بس قلبها طيب” كما تقول عنها آمنة، فأقتنع أنا رغم أن زنوبة تغش في الميزان وتوزع الفتيات على بيوت العزاب للخدمة.
في الفيلم ليس هناك فتيات سعيدات، واحدة قتلها الحب، وواحدة رحلت بعد أن خطبت للمهندس اللعوب ثم تركته، وامرأة فقدت عقلها بعد أن فقدت بناتها، وآمنة التي تحارب لنا جميعاً.
رغم كل هذا أحب الفيلم، أحب آمنة التي أخذت على عاتقها أن تنتقم للفتيات من كل مهندسي الري اللعوبين في الحياة، أحبته ولم تسامحه، ثم عندما انتهت مهمتها وطلب منها أن تنطق بها، لم تقل سوى “إوعى لنفسك يا سيدي”.
آمنة، كانت تشكو الحب لله مع الكروان، الحب الذي قتل أختها، والذي علق قلب خديجة بالباشمنهندز والذي منعها من أن تقتله.
أشكوه لك لك يا صاحب الملك، كان الابتهال الذي تردده آمنة طوال الفيلم، تشكو لله أباها الذي فضحهم في البلدة حياً وأخرجتهم سيرته منها ميتاً، تشكو خالها الذي غدر أختها الوحيدة، تشكو الباشمنهندز الذي قلب حياتها، تشكو لله قلبها الذي ورطها في هذا كله.
الفيلم رغم كل شيء، يمسني بحزن نبيل، يمسنا جميعاً، كلنا نخبيء في القلب أشياء نشكوها لله، ليست آمنة فقط هي من تبتهل لله بالشكوى، فحتى الفتيات ذوات الحياة البسيطة أمثال خديجة في الفيلم يمسهن الضر في كثير من الأوقات، كل الفتيات يسمعن الكروان يردد دائماً أشكوه لك لك يا صاحب الملك.