الراحة: وقت التقاط الانفاس

982

 

كتبه: رفيق رائف

 

عادةً أستيقظ في منتصف الليل وقلبى يدق بعنف؛ إذ أحلم على الدوام بأناس يلاحقونني، وأقضى طوال الحلم هاربًا منهم .. تارة أتسلق سلالم، تارة أدخل في متاهات، تارة أقفز من أماكن مرتفعة؛ المهم هو أنى أظل أركض وأركض حتى أستيقظ متصببًا عرقي وجسمي يشعر كما لو أنه خرج لتوه من ماراثون للجري.

اعتاد فرويد أن يرى فى الأحلام رسائل تعبر عن صراعات تحدث في اللاوعي؛ وكأنها طريقة يعبر بها المخ عما يختبره الإنسان ولا يعي به. عندما حاولت أن أفكر فيما يمكن أن يكون وراء تلك الأحلام المستمرة، ومن هؤلاء الملاحقون لي في الحقيقة، وجدت أنهم ربما يكونون “التوقعات” مني. تسألني “توقعات من؟”. لا أعلم، ربما توقعات المجتمع، ربما توقعات المحيطين بي، أو ربما حتى توقعاتي من نفسي. أجد نفسي دائم اللهث حتى أصل لتلك التوقعات. وأعتقد أن أثقلها هي تلك التوقعات التي أضعها على نفسي.

أظل أجري وأجري، أحاول أن ألاحق أحلامي، طموحاتي، أهدافي، احتياجاتي، رغباتي، علاقاتي، واجباتي تجاه الأشخاص والأشياء، أو التزامات قد ربطت نفسي بها. ويبدو أن هذه هى سمة الإنسان المعاصر، يظل يركض ويركض. وكلما شعر أنه وصل لمحطة معينة، رأى أن عليه أن يركض حتى يصل لمحطة بعدها. وكأنه يطارد سرابًا، يقول لنفسه: “سنرتاح فقط عندما نصل لذاك أو تلك”. وعندما يصل، يجد أنه لا بد له أن يركض مجددًا. لا يعطي نفسه الفرصة أبدًا أن يرتاح ، أو أن يلتقط أنفاسه. فدائمًا يوجد المزيد، فدائمًا هناك تلك الوظيفة الأخرى التى يجب أن تحصل عليها، الشهادة الأخرى التى يجب أن تدرس لها، الأشياء الأخرى التى يجب أن تقتنيها. هناك الكثير من الـ”يجب” والـ”يجب”، وهناك أيضًا الـ”يجب” تجاه علاقاته؛ فهو يجب أن يرضي فلانًا، ويخدم فلانه، ويعطى لفلان، ويكون هناك لفلانة. دائمًا يطالب نفسه بالمزيد والمزيد، ويجلد نفسه على الدوام لأنها لا تكون أبدًا كافية لأي من هذه التوقعات.

 

 الراحة والتصالح

وسط كل هذا السعي المحموم وركضنا في عدة مسارات في نفس الوقت، تبدو كلمات مثل “الراحة”، “التقاط الأنفاس”، أو “التوقف” كلمات غريبة علينا، بل لا تناسب السرعة التي نريد أن نركض بها. فالجميع يشعر أنه متأخر عن الجميع، وكل واحد منا يظن أنه في مؤخرة السباق على الدوام. وأتساءل: “لماذا أصبح مفهوم الراحة غريبًا علينا؟ لماذا لم نعد نعطي أنفسنا الفرصة (أو حتى الحق) في أن نرتاح؟. أعتقد أن الإجابة ربما تتعلق بمفهوم “التصالح”.

1-    محدوديتي

بداخلي الكثير من الصراعات بل الحروب أحيانًا. فهناك ذلك الصراع الدائم مع محدوديتي، دائمًا لا أقبلها، لا أقبل أن طاقتي محدودة، وقتي محدود، قدرتي محدودة، جسمي محدود، عقلي محدود، وحتى سعتي النفسية محدودة. ولا أستطيع أن أفعل كل الأشياء التي أريدها، أو أكون مع جميع الأشخاص الذين أحبهم، أو أفكر فى جميع الأشياء التي تشغلني في نفس الوقت. دائمًا ما تخذلني محدوديتي وتذكرني بأنني لست كاملًا. توقعاتي غير المحدودة من نفسي عادة ما تنكسر على شواطىء محدوديتي.

 

2-    عدم معرفتي

وهناك صراع آخر مع تيهاني في الحياة؛ فدائمًا ألوم نفسي على عدم وصولي إلى كل الإجابات أو معرفة كل الحلول. أطالب نفسي بأن أعرف على الدوام ماذا أريد، ماذا أحتاج، ماذا يجب أن أفعل، وما هى أفضل طريقة لفعله. وكأننى أتوقع من نفسي الحكمة الكاملة التي يجب أن تعرف كل الإجابات بدون أن تخطئ أو تتيه أولًا. لا أقبل بسهولة عدم معرفتي وقلة خبرتي بالحياة، وبأنني حتى أصل إلى أي معرفة، يجب أن أمر أولًا بعدم المعرفة، ويجب أن أعطي لنفسي الوقت الكافي حتى أتعلم، والشجاعة الكافية حتى أخوض التجارب، والحب الكافي حتى أخطئ.

 

3-    بطء خطواتي

وهناك صراعي مع بطء خطواتي في الحياة؛ فلا أقبل بطء التغيير، وأطالب نفسى دائمًا بقفزات كبيرة. وهناك صراعي مع تعقيد خيوطي الداخلية، وكأني أنسى بأنني إنسان بداخله خيوط من كل شيء فى الحياة. وهناك صراعي مع تعريفات مثل النجاح، السعادة، والمعنى. إذ أنظر دائمًا لما يحصل عليه غيري، إلى ما يجعله سعيدًا، إلى ماذا تعني تلك الأشياء بالنسبة له، وأحاول دائمًا أن أحصل على ما يحصل عليه، وفي خضم ذلك أنسى نفسى، أنسى ماذا أريد أنا وماذا أحتاج أنا.

 

مؤخرًا بدأت أدرك أهمية الراحة في الرحلة؛ في رحلة الحياة. ففي الراحة أستطيع أن ألتقط أنفاسي، أن أنظر إلى الوراء، وأهنئ نفسي بما حققته، أن أمتن لخطواتي ولرحلتي ولما شكلته فيّ حتى الآن.

في وقت الراحة أيضًا أستطيع أن أستمتع بالرحلة، أن أتخلى عن القلق الدائم من عدم الوصول، من عدم الكفاية، من أن أكون مقصرًا، من أكون متأخرًا. وبدون أن ألوم نفسي لأنها تحتاج للراحة؛ مثلها مثل أى مخلوق آخر.

في وقت الراحة أستطيع أن أقترب إلى نفسي، أن أتعرف عليها، أن أرحمها وأقبلها كما هي حقًا، بدون تشويش توقعاتي ومتطلباتي منها. في الراحة أستطيع أن أتمرن على عقد سلام مع صراعاتي، مع محدوديتي، مع تيهاني، مع تعقيداتي، مع ضعفي، وأخيرًا مع إنسانيتي.

هل رأيت رياضيًا يركض طوال الوقت مهما كان رياضيًا متميزًا ومتمرسًا؟ فلا غنى عن الراحة والتقاط الأنفاس، خاصة إن كنت تريد أن تذهب بعيدًا في رحلتك. وأذكر نفسي دائمًا: “اختِر أن ترتاح وإلا ستجبرك نفسك على ذلك يومًا ما .. بارك راحتك، فالرحلة لن تنتهى أبدًا”.

 

مراجعة لغوية: عبد المنعم أديب

 

المقالة السابقة1 يناير
المقالة القادمةمغلق للراحة

2 تعليقات

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا