“مُمكن”

642

 

كتبه: محمد فوزي عبد الرحيم

 

ماذا لو

ماذا لو” هو تعبير يُصرَف مجانًا مع الولادة، مُلازم للإنسان طوال حياته، ويمر بكل المراحل العمرية مثله تمامًا. فهناك “ماذا لو” الطفل، و”ماذا لو” المُراهِق، و”ماذا لو” الناضج، و”ماذا لو” العجوز. ومثل أي رفيق مُخلص.. لا تموت “ماذا لو” إلا مع موت الإنسان.

فعلى سبيل المثال، يكون الوعي الخاص بذلك الكائن المُسمّى بـ”ماذا لو” صغيرًا في الطفولة، مهتمًا بالأمور الصغيرة. ماذا لو لم يوافق أبي على شراء الدراجة التي أتمنَّاها؟ ماذا لو قرر جارنا الغاضب “رشّ” المياه أمام بيته حتى لا نتمكن من لعب كرة القدم؟ ماذا لو سألني المُعلّم سؤالًا لم أذاكره جيدًا؟ ماذا لو تأخرتُ على طابور الصباح؟

ثم يشبّ وعي “ماذا لو” الخاص بالمُراهق؛ ماذا لو لم تحبني كما أحبها؟ ماذا لو لم أحقق مجموع كلية الطب بالثانوية العامة؟ ماذا لو لاحظ أصدقائي الأثرياء أني لا أملك إلا هذا القميص؟ ماذا لو عَلِم أبي أني أدخّن السجائر سرًا؟ ماذا لو لم نتمكن وأصدقائي من ادخار مال السفر إلى الإسكندرية هذا الصيف؟

ثم تأتي “ماذا لو” الناضج؛ ماذا لو تزوجت وانتهت حريتي؟ ماذا لو لم أتمكن من إلحاق ابني بمدرسة دولية؟ ماذا لو وصل الخبر إلى الـ HR ووقّعوا خصمًا قاسيًا على الراتب الشهري؟ ماذا لو مات أبي؟ ماذا لو تعذّب بالمرض قبل موته؟ ماذا لو لم أتمكن أن اُكمل حياتي من بعده؟

وأخيرًا .. ماذا لو العجوز، التي تختصر نفسها في بضع تساؤلات بسيطة ولكن مخيفة. ماذا لو انزلقت بأرضية دورة المياه وتحطمت عظامي؟ ماذا لو انشغل عني أبنائي وصرت وحيدًا؟ ماذا لو لم أتمكن من توفير ثمن أدوية السيولة؟ ماذا لو كان الموت أقرب لي من الحياة؟

فما الذي تُعبّر عنه “ماذا لو“؟ .. الإجابة تكمُن في عدة عناصر، ولكن أهمها هو الخوف.

 

الخوف

يعتقد البعض أن الخوف هو نوع كغيره من أنواع المشاعر الإنسانية، ولكن الحقيقة أنه يختلف كثيرًا عنها؛ فذلك الخطأ الشائع هو مُجرد كسل تعريفي، أو ربما خوف من التعريف الحقيقي للخوف. فالمشاعر الإنسانية عادة ما تكون “ردة فعل شعورية” على “حدث تم إدراكه” إما بشكل حسّي أو عقلي.

فالحب والكراهية والسعادة والحزن والحسد والغبطة كلها “ردود أفعال” على أشياء “حدثت وتحدث بالفعل”. غير أن الخوف هو الوحيد الذي يمكن وصفه بأنه “ردة فعل” لاحتمال وقوع حدث “لم يحدث بعد”!

ولهذا فهو شعور غير مريح للإنسان، مُنفّر لجوارحه، تعرف النفس أنه غير أصيل ولا ينبع منها، إنما من حيلة عقلية ينسجها لاوعي الإنسان، متسببًا في ربكة شعورية، وكذلك اضطراب كيميائي للجسد؛ فإلى جانب الأدرينالين، يُفرز الجسم هرمون الكورتيزول الذي يصفه العلماء بأنه طفل مُخرّب يضرب أعضاء الجسد في شراسة وفوضوية قاتلة.

فما هو الخوف إذًا؟ الخوف هو اللغة التي يترجم بها الإنسان لفظ “الاحتمال” بـ”ماذا لو” .. وهو اللوحة التي يرسمها لـ”المستقبل” بألوان “المجهول” .. فإن كان جوهر أزمة الخوف هو “المستقبل“؛ فلماذا يهتم الإنسان بالمستقبل؟

 

وقوع البلاء.. ولا انتظاره

الزمن ليس مجرد رقم تشير إليه عقارب الساعة، بل هو معيار التغيّر، هو وقود الشعور باستمرارية الحياة. فكل حياة بها لحظة سابقة نذكرها، وحالية نعيشها، وقادمة نفكّر بها. وهذه الرحلة التي نقطعها بين اللحظات هي ما تُشعرنا بالحياة ذاتها. فلولا الزمن لصارت حياة الجميع مجرد لحظة واحدة، لا تتحرك، عذاب أبدي غير مفهوم.

ولكن تلك اللحظة القادمة التي تعبر عن المستقبل، والتي بطبيعتها تكون مجهولة، تختلط داخل مشاعرنا مع غريزة إنسانية أساسية هي “الفضول”. فنحن نريد أن نعرف، لا يتحمل “فضولنا” فكرة أن هناك شيئًا ما مجهولًا، فيقوم العقل بمحاولة سد “جوع” تلك الغريزة؛ برسم احتمالات عن حقيقة ذلك الشيء المجهول، في صورة احتمالات.

ولأن “غريزة الفضول” صديقة مقربة من “غريزة النجاة” داخل النفس البشرية؛ فإننا نرى “الاحتمالات”، من خلال عدسة “الرغبة في الأمان والسلامة”؛ وبالتالي نرى الاحتمالات على أنها خطر يهدد تلك السلامة وذلك الأمان.

وحينما يظهر الخطر في أفق الحسابات العقلية يُعلن الخوف عن نفسه في كهوف المشاعر الإنسانية. فحقيقة الخوف تبدو واضحة الآن، مثل “طبق اليوم”، ومقاديره كالتالي:

زمن (هو أساس الشعور بالحياة) = ماضٍ+ حاضر + مستقبل.

المستقبل = المجهول.

المجهول + غريزة الفضول = الاحتمالات.

غريزة الفضول + غريزة النجاة + الاحتمالات = خطر.

خطر يوضع في فرن الانتظار لمدة من الزمن، ليُقدم طبقًا ساخنًا لـ”الخوف”. وكلما طال زمن الانتظار ازدادت سخونة الخوف؛ ولهذا انتشر بيننا تعبير “وقوع البلا ولا انتظاره”، فالخوف من وقوع الكارثة أكثر قسوة من الكارثة نفسها.

 

الخوف الإيجابي

هل يُمكن اعتبار الخوف في بعض الأحيان إيجابيًا؟ مثلًا الخوف من الفشل كدافع للنجاح. الإجابة هي: كلا البتّة!. ونكررها بإصرار الفنان محمد صبحي بمسرحية تخاريف: “كلّا البتّة!”.

فـالدافع المثالي للنجاح هو السعي وراء احتمالية نتائجه الإيجابية، فلا يُمكن أن يؤدي شعور سلبي إلى نتيجة إيجابية، بل ربما يكون الأمر أكثر خطورة إن كان الخوف دافعًا، بأن يتحول إلى إدمان نفسي تعتمد عليه نتائج النجاح، فيفقد الإنسان متعة الشعور بالسعادة، ويحل محلّها شعور الارتياح لاهثًا. فهو لا يسعى إلى نجم مضيء باهر، ولكنه يهرب من كتلة نارية مُحرقة. وشتّان بين الحالتين.

ويتحول الأمر داخل اللاوعي إلى متلازمة نفسية تخلق ارتباطًا شرطيًّا بين الخوف والنجاح، حتى إذا دخل الإنسان تجربة لا يخاف منها؛ فإنه يشعر بالخوف من عدم خوفه، فعدم خوفه يعنى أنه لا يهتم بالقدر الكافي، ولذلك سيفشل.

تخيّل عزيزي القاريء! لقد أصبحنا نخاف ألّا نخاف! ولهذا انتشر أيضًا بين الجميع عندما يدخلون رحلة سَلِسة بدون عقبات، تعبير “فين الـ إنّ؟”، معتقدين أن الأمر به خدعة ما، أو أزمة خفية، فليس من المنطقي أن تكون الحياة بتلك السهولة!

 

مُمكن

كل شيء في الواقع له حالتان، “الإفراط” و”التفريط“، إما المبالغة أو التجاهل، والخوف كذلك. فلا يمكن التفريط في الخوف، ولكن يُمكن ضبطه في معنى “الحذر”، وكذلك لا يُمكن الإفراط فيه، ولكن تحجيمه وتحويله إلى التعريف الأكثر رُقيًّا له، وهو الاستعداد للتعامل مع المصاعب.  فاللحظة الجميلة التي نشاركها مع من نحب من الممكن أن تنتهي ولكن. في حالة التفريط؛ أي عدم الخوف نهائيًا من تلك المعلومة سيؤدي إلى إضعاف قيمة تلك اللحظة وجمالها، ومدى تعلّقنا بها. فهي لن تعود إن انتهت؛ وهذا ما يجعلها ثمينة ذات خصوصية.

بينما الإفراط؛ أي الخوف العنيف من تلك المعلومة، سيؤدي إلى توقع نهايتها في كل ثانية، لدرجة الانشغال عنها باحتمالية انتهائها داخل سجن مظلم صامت ثقيل من اللاشيء؛ حتى تمر وتصبح وذكرى للحظة لم نعشها حقًا.

والسؤال.. هل يجب أن نخاف؟ الإجابة أننا ليس لنا إرادة في الخوف من عدمه، ولكن لدينا الاختيار في التعامل مع هذا الخوف.  فـ ماذا لو تخيّلنا “الخوف” عدوًّا وقررنا النظر في عينيه.. وابتسمنا؟ أظن أنه سيشعر بالخوف.

 

مراجعة لغوية: عبد المنعم أديب

المقالة السابقةأنا خايف، مش شايف!
المقالة القادمةلو من غير جناحين مش هنخاف

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا