براءة حرية

573

أخبرنا أستاذي يومًا عن شيء يُدعى الحرية

فسألت الأستاذ بلطفٍ أن يتكلم بالعربية:

ما الحرية؟!

هل هي مصطلح يوناني..

عن بعض الحقب الزمنية؟

أم أشياء نستوردها؟

أم مصنوعات وطنية؟؟

فأجاب معلمنا حَزِنًا وانساب الدمع بعفوية:

قد أنسوكم كل التاريخ وكل القيم العلوية

أسفي أن تخرج أجيالٌ لا تفهم معنى الحرية

لا تملك سيفًا أو قلمًا، لا تحمل فكرًا وهوية.

أحمد مطر

كلما مرت هذه الأبيات بخاطري.. أتساءل: ما الحرية؟ هل يمكن أن تكون مثلاً خروج النساء للتظاهر عاريات ومحاولة منظمة (FEMEN) الترويج لهذا النوع من الاحتجاج حرية؟ هل يعد انتشار الشذوذ الجنسي والإجهار به محاولة لتقنينه حرية؟ هل التصفيق والتهليل والمباركة لمن تخلع عنها حجابها حرية؟

أين أول ذلك المفهوم؟ وأين آخره؟

هل دخلت معتقداتنا الدينية والأخلاقية في خضم معركة النسبية الأخلاقية؟

في عام 1992 في مدينة زيوريخ.. قامت ما يقرب من تسعة آلاف امرأة بالتظاهر يرتدين السواد ويحملن الشموع احتجاجًا على اغتصاب نساء البوسنة بواسطة قوات الصرب، وفي كل مدينة في سويسرا نظمت الحركة النسائية المظاهرات ضد اضطهاد النساء والفقراء، وهتفن ضد النظام العالمي الجديد، هؤلاء النساء الأوروبيات المتحررات وصلت رسالتهن دون أن تخلع واحدة منهن رداءها أو تكشف عن صدرها كما تفعل فتيات “فيمن”. فإن كان غرضهن لفت الأنظار بالصدور العارية.. فالأعداد الكبيرة أيضًا تلفت الأنظار.

أما لو كانت نظرتهن للرجل بأنه أداة جنسية يسهل تحريكها بالعري، وأن الكاميرات تجذبها الأجساد العارية من أجل صناعة البورنو.. ففي الواقع هي لم تفلح أبدًا.. والملاحظ في احتجاجاتهن أن الفتيات جميعهن جميلات وأجسامهن ممشوقة ويتظاهرن بأعداد فردية قليلة لا تكاد تزيد عن عشر فتيات. وفي كل مرة تتدخل قوات الأمن ويتم سحل الفتيات وتلتقط الصور في هذه اللحظة بالذات، وتنشر الصور التي تظهر اعتداء الأمن، فيتعاطفن معها.. ثم يطلق سراحهن لإسكات جعجعة منظمات حقوق الإنسان ومن ثم يعاودن الكرة من جديد.

وفي النهاية لم تصل الرسالة.

منذ أيام قامت ناشطات عاريات الصدر تابعات لمنظمة “فيمن” الحقوقية، بالتظاهر ومهاجمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وذلك احتجاجًا على نظامه السياسي. هجوم الناشطات كان خلال تفقد بوتين معرض هانوفر الدولي في ألمانيا، حيث قامت المتظاهرات بالجري والصياح نحو بوتين، إلا أن الحرس حال دون وصولهن له.

المتظاهرات كتبن على صدورهن عبارات بذيئة. وكان رد بوتين على هذا الأمر مفجعًا لهن. قال إنه استمتع برؤية مشهد النساء عاريات الصدر اللواتي تظاهرن ضده في ألمانيا، وإن مثل هذه الحملات تؤدي إلى زيادة الحديث عن المعرض، وقال: لا أرى شيئًا مفزعًا في ذلك، من يريد أن يتحدث في السياسة عليه أن يرتدي ملابسه. هكذا قالها ببساطه: من يريد أن يتحدث في السياسة عليه أن يرتدي ملابسه.

كثير من النساء شاركن في النضال لتحرير المرأة، لكن أبدًا لم تخلع واحدة منهن رداءها.. ويمكن هنا الإشارة لسبب قوي ودافع لفتيات “فيمن” ألا وهو المجتمع الذكوري الذي يهمش المرأة دائمًا. وهذا ليس تبريرًا لتصرفاتهن ولكن محاولة لرؤية الأمر من زاويتهن.

فعلى سبيل المثال ملك حفني ناصف الًتي لقبت بباحثة البادية وكانت معاصرة لقاسم أمين، آراؤها كانت أكثر تقدمًا من رفاعة الطهطاوي وقاسم أمين.. فلماذا اشتهر قاسم أمين في التاريخ على حين توارت ملك وغيرها من الكاتبات؟ أليس هذا لأن مجتمعنا يرغب أن يظل قاسم أمين قائدًا لحركة تحرير المرأة حتى يأتي رجل آخر ليحل محله؟ هل يا ترى فكرت علياء المهدي في هذا الأمر قبل دخولها المنظمة كأول عضوة مصرية بها؟ لا أدري.. ولكني أعي جيدًا أن هذه ليست الحرية التي نبحث عنها.

أتذكر يومًا أني كتبت على صفحتي الخاصة أسجل اعتراضي على معلم خرج ليتظاهر بحقه في المثلية الجنسية.. كتبت من منطلق أن الشذوذ انتكاس في الفطرة، وأنه مرض لا تنصب نتائجه على المريض نفسه فقط بل على الآخرين أيضًا. كتبت عن أني أخشى على أبنائي في المستقبل أن يصابوا بمثل هذا المرض إن تفشى في المجتمع.. وختمت ما كتبت بالطامة الكبرى. وكأني ارتكبت جريمة لا تغتفر لأني تمنيت رحيلهم عن مجتمعنا فهذا الأمر مقنن في بعض الدول الأوروبية.. لم لا يرحلون ويعيش كل منا بمعتقداته في سلام؟

لم تمر دقائق حتى انهالت عليّ التعليقات تنهرني لأني منغلقة وغير متفتحة.. وسلوكي لا ينم عن أني تلقيت أي نوع من أنواع التعليم.. ولم أراعِ الحرية الشخصية للآخرين.

كنت مذ تفتحت على العالم الخارجي وأنا أعلم جيدًا أن ميراث أجدادنا يجب أن يغربل، فنأخذ منه ما يناسبنا وننفض الباقي عن أكتافنا حتى لا يحملنا فوق طاقتنا، ولكن هذا الميراث الذي أتحدث عنه هو ميراث العرف والتقاليد التي أثقلت كاهلنا سنين طوال، لا أدري متى امتدت الحرية لتتدخل في صلب عقائدنا وأخلاقنا لتدخل ضمن النسبية الغبية التي أصبحت لعبة المتحررين هذه الأيام؟ من وجهة نظري هذه النظرية تحتوي على بعض الترهات التي أتاحت لكل فرد أن يفعل ما يريد تحت وطئة الانفتاح.

على الهامش أقولها: ليس التعري أو الكذب أو القتل أو الفساد حرية. فالحرية بريئة مما نسب إليها هذه الأيام.. أتذكر ما قالته مانون رولان وهي تصرخ قبل إعدامها عام 1793 “أيتها الحرية المظلومة، كم من الجرائم ترتكب باسمك!” فالجرائم التي ارتكبت في الثورة الفرنسية لم تكن أبدًا تحت مسمى الحرية.. ولكنها كانت فوضى وتسارع بربري نحو القتل الجماعي. ولم يكن روبسبير سوى سفاح الثورة الفرنسية.

اليوم أصبحنا نوجه أصابع الاتهام إلى بعضنا بعض باسم الحرية.. ويبدل اتحادنا فُرقة باسم الحرية. ليتنا نضع حدودًا لا تضيع بها حقوقنا وحقوق جيل يومًا ما سيكون خلفًا لنا ولكن…

أسفي أن تخرج أجيال لا تفهم معنى الحرية

لا تملك سيفًا أو قلمًا، لا تحمل فكرًا وهوية

 

 

المقالة السابقةمتجريش ورا الكاس الفاضي
المقالة القادمةياللي إنتي حبك حرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا