كتبته: آن سامي
أكره حين يفاجئني مؤلف الفيلم في الدقائق الأخيرة، بظهور عدو ليفرق بين الحبيبن اللذين طال انتظار لقائهما! والمضحك المبكي في الأمر هو تكرار ذلك السيناريو بعينه معي مع اختلاف العدو؛ فهو ليس بشخص أو مرض أو حتى ظروف مفاجئة لكنه في العادة كان “أنا”!!
وهنا لست أقصد بالتحديد العلاقات العاطفية؛ فبينما أية علاقة اخترنا فيها -أنا والطرف الآخر- الغوص لما هو أبعد من شط انجذاب البدايات، في العمق -عمق الحب- يبدأ الصراع. وأُولى الصراعات هي صراعاتنا مع ذواتنا من داخل غرفنا المغلقة!
- في العمق
يقولون: كلما أحببنا بصدق أصبحنا أكثر عرضة للكسر. ففي العمق نخلع ونتكشف بعضنا لبعض، نختار بكامل وعينا أن نسقط أقنعة ذواتنا المزيفة قناعًا تلو الآخر؛ رغبةً في اتحاد آمن مشبع دافيء، بلا أية حواجز تعيق الالتصاق بالمحبوب. ولكن للأسف لا نفلت من الذاكرة وفعلتها الدنيئة، تظهر كالعدو مستحضرة أشباح كل علاقة لم يكتب لها البقاء في الماضي، تُنِهض مجددًا كل ألم من قبور الندبات.
- كابوس الرفض وعلاقته بالخزي
لا ينتهي الرفض للأسف بنهاية العلاقة. في كل مرة أحببنا بصدق وتعرضنا له يترك فينا آثارًا بالغة، يحفر الرفض بسن سكينه الحاد على نفوسنا تعريفات جديدة عنّا؛ مؤكدًا عدم كفايتنا أو استحقاقنا للحب، عدم نضجنا؛ بل يتنبأ في مستقبلنا بالفشل، الوحدة والاكتئاب، يحفر فينا علامات يصعُب محوها؛ لكونها سهلة التصديق في خضم أنين الرفض. والأصعب من ذلك هو حينما نتصرف من منطلقها دون وعي منا بسبب وجودها، بل نتعامل كأنها حقيقتنا دون أيّ جدال!
نظن أننا اجتزنا الرفض؛ وحالما ندخل في الحب تتراص خبراتنا الموجعة السابقة، فيعلو صوت الخوف والخزي، ويضعف نغم أمان الحب؛ وبدلًا من عفوية وبساطة العلاقة يتلو الخوف أوامره مهددًا بكابوس الفقد الأليم. ننشغل بأنفسنا وكيف نبدو؟ نلتف حول ذواتنا بدلًا من الالتحام بالآخر فتغدو أفعالنا وردود أفعالنا بـ”الشوكة والسكينة”. نتوقع من أنفسنا توقعات خيالية تجاه الآخر؛ خوفًا من أن يملَّ منا فيتركنا نبدأ في محاولات الاسترضاء المزيفة المدفوعة بوقود الخوف وليس الحب. نظل نطالب بضمانات لا تنتهي، أو العكس فقد ننصاع للخوف على هيئة بناء الحصون والابتعاد عن كل عمق قد يجلب المتاعب. ومنا من لا يحتمل كل هذا التوتر فيختار بمحض إرادته قتل العلاقة قبل أن يقُتل من ألم الرفض!
- أولويات الصراع
ما لم تحسم صراعاتنا مع ذواتنا لن ننجح في “الحب”. سيظل شبح الخوف يجتذبنا عنوة إلى غرفنا المغلقة، يطاردنا بل يمتص طاقتنا حتى يصبح لا طاقة لنا للإبحار مع من نحب! تتشوش رسائل الحب ويصعب استقبالها بصورتها النقية؛ فكلها تمر من عدسة الخوف لا الحب. تصبح حساسيتنا مفرطة وتتحول علاقة الحب إلى عبء.
- الحب الشافي
يقولون العلاقات هي الداء والدواء. تكشف علاقاتنا العميقة أمراضنا الدفينة، لكنها في اللحظة نفسها تحوي العلاج. وأعتقد أنه لن تشفى أمراضنا إلا إذا سمحنا لأشعة الحب أن تخترق غرفنا المظلمة؛ فبالحب يُطرد الخوف وهذا ما أحب أن أطلق عليه “الحب الشافي”.
- المسئولية المشتركة المركبة
لا تقع مسئولية الحب الشافي على عاتق طرف دون الآخر؛ وإلا فقدت العلاقة “الندية” حين لا يتناسب منسوب العطاء والأخذ، ومن الممكن أن تتحول إلى علاقة اعتمادية مريضة. في الحب المتبادل يتم الشفاء، الحب يشفى حين نرى العيوب بوضوح، ومع ذلك تبقى رغبتنا في البقاء متبادلة. تختبر حينها نفوسنا المتعبة راحة القبول “كما نحن” وما أجملها راحة!
نجاح الشفاء يتوقف على جودة الإرسال والاستقبال أيضًا. قد يدفعنا الخوف الناشيء من الخزي لتقديم إرسال متميز من الحب لمن نحب، لكنه في نفس الوقت يسد مسام الاستقبال فينا “بعرف أقدِّم الحب لكن مش بعرف استقبله!”. الحب يشفى حينما يأخذ كل طرف منا -على حدة- شعلة من الحب المتقد المتبادل، ويدخل بها لينير ظلمات حجرات الخوف والخزي خاصته. مدخلات جديدة من النور لذاكرتنا المنغلقة على أوجاعها. تتسلل أشعتها الرقيقة على ملامحنا؛ فندرك الحقيقي من المزيف، نستبصر بالحقيقة -وفي الحقيقة- حرية، وفي الحرية انطلاق وطاقة لاجتياز أعماق أبعد في الحب.
- الحب للشجعان
يحتاج الحب لقدر من الشجاعة، شجاعة فتح غرفنا المغلقة على مصراعيها لدخول النور والهواء، وما يتبع ذلك من مواجهة الأشباح الداخلية اللزجة التى لا تكل الحط من قدرنا بسبب ذكرياتنا الممزقة جراء الإساءات القديمة؛ شجاعة المكاشفة للآخر بتلك الصراعات بل وطلب المساعدة. يتجلى سحر الحب في تلك اللحظة حين لا يعود لخزي الماضي السلطان حين تستنشق نفوسنا من جديد حرية وجمال “أن نُحَب كما نحن”.
مراجعة لغوية: عبد المنعم أديب