معادلة البكاء

729

 

كتبته: آن سامي

 في الحقيقة ترددت كثيرًا قبل وأثناء كتابتي لهذا المقال؛ للدرجة التي جعلت تلك السطور التي تقرأها الآن هي المحاولة الرابعة لصياغة ما بداخلي. وذلك لحذري المُبالَغ فيه من الوقوع في عباءة “الناقد النصوح”؛ ذلك الدور الذي يسهل عليَّ ممارسته لخلوّه من متاعب العبور للآخر، والجلوس بجواره للشعور بمعاناته. ولكن ماذا لو كانت مشكلة هذا الآخر هي “إدمان التعاطف”؟ فهل سيكون “تعاطفي” معه هو جرعة أخرى من المخدر الذي ربما يمكِّنه من إدمانه فيؤخر من تعافيه؟!

هذا الآخر قد يكون أنا وأنت؛ فالسقوط في فخ “الرثاء للذات والولولة” ليس ببعيد عن أي منا. وأظن أن الحياة بها ما يكفي من الضغوط والمفاجئات غير السارة التي قد تطرحنا أرضًا، فيخرج منا ما لم نكن نتوقعه أبدًا أن يصدر عنا!

عرَّف “إدوارد خانتزيان – Edward Khantzian” الإدمان بأنه نوع من أنواع مداوة الذات. وهنا قد نلجأ إلى “إدمان التعاطف” هروبًا من مواجهة المشكلات وما تتسبب به من ألم. تصدمنا الحياة بحدث مؤلم، ننكره، نغضب، ثم نحزن، ونبكي، نكتئب؟ ربما نصارع في قبول الألم، وقد نفشل؛ فنصبح حينها عُرضةً للغرق في بئر اليأس. فتغدو الشكوى بلا توقف، وإلقاء اللوم على الآخرين أو الظروف هي العُملة التي بها نحصل على قدر من التعاطف الذي قد يخفف من احتمال ألمنا لبعض الوقت حتى زوال المخدر والعودة للمناورة مرة أخرى لطلب المزيد!

يبدو حق “الشكوى والتأوه من الألم” مشروعًا إلى أن تأتي اللحظة التي تتوقف فيها عقارب ساعتنا عن الدوران، لنبدأ نحن في الدوران حول المشكلة نجترُّ الأوجاع دون توقف. يضيع العُمر من بين أيدينا، نستسلم للمعاناة موهومين أننا مسلوبو الإرادة بلا مسئولية تجاه حالنا، وأنه لا قاع لهذا البئر!

من القاع للانطلاق

“جبت قاع” تلك اللفظة التي سمعتها مرارًا على لسان الأبطال المدمنين المتعافين في وصفهم لبداية سكة تعافيهم. يُقصَد هنا بـ”القاع”: تلك المرحلة التي يرى فيها المدمن بنفسه الخسائر النفسية والجسدية والمادية التي أصابته؛ فينمو لديه توجُّه الإقلاع عن الإدمان.

ليس “القاع” نصيب كل المدمنين؛ فمنهم للأسف مَن لم يصل إليه وانتهت حياته بالموت، ومثله مثل “إدمان التعاطف”؛ فمنا من يحكم على حياته بالموت “موت بالحيا” لا ينظر إلى ماضيه وحاضره ومستقبله إلا من خلال عدسة “الحدث المؤلم” مُنزهًا ذاته من أية مسئولية عليه، صامًّا أذنَيْه عن أية أصوات تناديه للخروج اعتقادًا منه أن الآخرين لا يشعرون به “يا إما تعاطف يا إما بلاش!”

أو قد يظهر أخيرًا القاع بعد إدراك كيف أن الحياة لا تتوقف واستيعاب حقيقة أنه ما لم أقف في صف نفسي فلن أنجو؛ فأنا المسجون وأنا أيضًا السجان!

 

  إدراك خسارتي

أدرك بنفسي خسارتي، خسارتي لسنين عمري، خسارتي لطاقتي التي استنزفت في الحزن واليأس بدلًا من استغلالها في التجديف للخروج من هذا البئر، خسارتي لعلاقاتي؛ فحينما ندمن التعاطف سنقوم -بشكل غير واعٍ- في نهب مخزون المواجدة من كل مَن حولنا. وإذا كفوا عن التعاطف فسيتحولون إلى جُناة قُساة، بل سنبدأ في إلقاء اللوم عليهم هم أيضًا!

مسؤليتنا تجاه أنفسنا “واجب” والبكاء في عبورنا وادي الوجع “حق”. تلك المعادلة الصعبة التي إذا اختلَّ أحد طرفَيْها؛ إما سنكبت الألم ونكون مُعرَّضين لخطر الانفجار أو سنغرق في الألم ونصبح أسرى “الرثاء للنفس”.

 

 المواجهة الآمنة

فيما يلي سأشارك بعض الأفكار العملية لبكاء آمن:

1-   لنبكِ دون الانسحاب من الحياة.

شاركتني صديقة غالية كانت تمرُّ بظروف مؤلمة قائلة: “أنا بشرب مَجّ المُرّ بتاعي كل يوم. بس ده مش حارمني أشوف وأستمتع بجمال نور الشمس”. طوبى لاتزانك يا صديقتي! قد علمتِنِي بنُضجك في التعامل مع الألم درسًا لن أنساه ما حييت!

 

2-   لنبكِ ونعبِّرْ ولكن بألفاظ مسئولة.

تعلُّم أبجدية “المسئولية” يعزز من ممارستنا للنضوج الفعلي في حياتنا، ويحمينا من خطر الانزلاق في دوامة الأنين والشكوى وإلقاء اللوم. فنحن في الحقيقة مسئولون عن ذواتنا، وعن كل فعل وردِّ فعلٍ يصدر منا أياً كانت الأحوال المحيطة!

قرأتُ ذات مرة ما يفيد بأن تحمل المسئولية يبدأ من اختيار مرادفاتنا. واقترح الكاتب عند الشكوى البدء بكلمة أنا، بدلًا من التركيز على “هم، الظروف، المرض…إلخ”.

فبدلًا من أن نقول: “الشغل تقيل ومديري صعب”؛ يمكننا استبدالها بـ”أنا محتاجة للمرتب، علشان كده أنا مستحملة صعوبة الشغل”.

 

3-   لنبكِ دون صمِّ آذاننا عن تعليقات مَن حولنا؛ وخصوصًا “مجتمعنا الآمن”.

هناك جزء في شخصيتنا لن ندركه إلا من خلال علاقاتنا بالآخرين. أشكرُ اللهَ من أجل علاقاتي بأصدقاء يدعمونني بكل حب وصدق وإخلاص؛ بتقديم التشجيع الحقيقي والنقد البناء.

 

يقول فرانكل: “كل شيء يمكن أن يؤخذ من الإنسان ما عدا شيء واحد -آخر حريات الإنسان-؛ وهو حرية اختيار رد الفعل الشخصي في مواجهة الظروف”.

الستار لم يُسدل بعد!

ستقسو الدنيا. ولكنْ تظل ردة فعلي تجاه قساوتها هي ما ستكتب كيف ستنتهي قصتي؟!

فكيف تحبُّ لقصتك أن تنتهي؟

 

مراجعة لغوية: عبد المنعم أديب

المقالة السابقةعادة أم عبادة؟
المقالة القادمةالتعافي .. دور مين؟

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا