C.V بالفحم

405

 

بقلم: محمد فوزي – كاتب

أذكر أنه في السنة الأولى من دراستي بكلية الهندسة، قابلني أحد جيراني، وبارك لي التحاقي بتلك الكلية العظيمة. وعندما أخبرته أنني لا أحبها أخبرني وشدد عليّ أنه حتى ولو لم أحبها .. فهي “سي في” جيد، وصورتي القيمة التي سأقابل بها الناس لاحقًا.

مرّت السنوات، وتعلّمت كل قواعد كتابة الـ “سي في” الاحترافي الذي لا يُرفض؛ حتى أصبحت محترفًا في رسم صورة منمّقة عن نفسي. وبالرغم من اختياري الصادم لجميع من حولي بعدم العمل في المجال الهندسي والتحوّل إلى الكتابة الإبداعية، غير أن مهارتي في رسم تلك الصورة “السي فيهية” لم يشُبها الضعف.

صورتنا أمام أنفسنا والآخرين

أجل .. نتعلم أن نرسم صورة عن أنفسنا؛ صورة رائعة برّاقة، تضج بكامل المميزات الشخصية والمهارات العملية، حتى وإن لم يكن جميعها حقيقيًا. فصورتك أمام الآخرين عِلم كغيره، له قواعده وأصوله ونصوصه، والتي لو صادف أن علِمت أنها كذبة؛ فعليك أن تصدقها حتى يصدقها الآخرون.

من أنت حقًا؟

ولكن بين الحين والآخر، وفي زيارة هادئة للمرآة، يسأل ذلك الانعكاس الزجاجي سؤالًا مُربكًا: من أنت حقًا؟ .. فتجيبه في المرة الأولى بتصورك عن نفسك، وتصف نفسك بما تحب أن يصفك به الآخرون، غير أنه لا ييأس، فيسألك أخرى، فتجيب بحماس أقل بما ترى به نفسك، ولكنه لا ييأس .. فيسألك صراحةً: “ما هي صورتك الذاتية؟”. فلا تجد إجابة .. غير أنك لا تنكر المفارقة في أن تسأل صورتك الزجاجية عن صورتك الذاتية .. فربما تضحك.

 

ما هي الصورة الذاتية؟

حسنًا .. إنها الصورة التي ترى بها نفسك. ولكن .. هل من المعقول أن ترى ذاتك على حقيقتها بصفاء من بين تراكم ظنون الآخرين التي أوفيت بها لتنال رضاهم، وعادات المجتمع التي ولدت به فأبيت إلا أن تكون من نسيجه، وصفات الأغاني العاطفية المفضلة لحبيبتك، والاتفاق الجمعي الإلكتروني لوسائل التواصل للشاب/الشابة الـ cool، والتعريف الغربي للإنسان المتحضر؟ أجاب علم النفس عن ذلك السؤال إجابة قد تزعجك، وهي أن تصورك عن ذاتك خطأ بنسبة 99%. وقبل أن يتحول الإزعاج إلى إنكار وضيق وارتباك، لنُبحر سويًا في النظريات النفسية التي ساقت إلينا ذلك الخبر الغريب.

والبداية عند كارل يونغ/يونج، وهو الذي لُقِّبَ بـ”أبي الطب النفسي الحديث”. ذلك الرجل العبقري المزعج الذي قال إن البِنْية النفسية لكل منا تنقسم إلى عدة أقسام، وكل قسم له مشاربه التي تُصنّعه، وكذلك له مساقطه التي نستخدمها في حياتنا اليومية. سنتحدث في هذا المقال عن قسمين فقط؛ وهما اللاوعي الشخصي، والظل. وهما كفيلان -في رأيي- بإعلان مسئوليتهما عن جريمة الـ 99%.

اللاوعي الشخصي أو العقل الباطن، هو ذلك الصندوق المظلم الذي ترقد به بديهيات الأمور مثل: السقوط من الأعلى قد يقتلك، النار إن مسّتك فلسوف تحرق منك اللحم وتذيب العظام، 1 + 1 = 2. وكذلك يحوي إخفاقاتك، أحلامك النهارية غير المحققة، مخاوفك، وغيرها.

فما هي مشاربه؟ .. حسنًا .. اعتبرْ اللاوعي الشخصي مثل دولة لها حدود؛ فالحدود الشمالية لذلك “اللاوعي” هو ما يُسمى بالـ complex، أو ما يُسمى دارجًا بالعُقد، أما الحدود الجنوبية فهو ما يُسمى بالـ”اللاوعي الجمعي”.

يولد كل منّا كصفحة شبه بيضاء (وسنتحدث لاحقًا عن وصف “شبه”)، ثم يتعرض لبعض المواقف. وتقوم النتيجة السلبية لكل موقف، بصياغة حالها داخل اللاوعي الشخصي أو بالأحرى على أطرافه كـ”عقدة”، ربما تنساها، ولكنها باقية مختبئة. يقتصر تأثيرها على صياغة بعض أفكارك والتي تصبح قناعات لا تعلم متى تأكدت من صحتها، ولكنك تدافع عنها، بينما تأثير تلك العقد الحقيقي يظهر عندما يتكرر الموقف القديم الذي خلقها. وعندها يحدث ما يسمى بالـabreaction، وعندها تفقد يا عزيزي السيطرة على نفسك وتتعامل برد فعل مربك قد لا تتمكن من تبريره لاحقًا.

وكل تلك العقد -والتي لا نعلم عددها- نختار منها أحيانًا عقدة نسمّيها بالـ circle of being أو دائرة الوجود. وهو الموقف الذي يباغتك في الطفولة -وغالبًا ما يكون ما بين عمر الثامنة والرابعة عشر- ويساهم بشكل كبير في تكوين شخصيتك التي أنت عليها الآن.

ومن تلك الدائرة الوجودية، يُخلق “الظل”. وهو كهف بأعماق النفس يحوي داخله كل ما ترفض أن توصف به، وكذلك مخاوفك، أو بالمعنى الدراج “جانبك المظلم” الذي لا تعرف عنه شيئًا، أو كما تصفه الباحثة teal swan “هو كل ما لا تعرف أنك لا تعرفه”.

أما الحدود الجنوبية وهي اللاوعي الجمعي؛ فيُمكن اختصارها في الميراث النفسي لرحلة الإنسان منذ البداية وحتى ميلادك عزيزي القارئ. فيُمكن تعريفه بأنه تعاليم البيئة المحيطة بك، عادات مجتمعك، تقاليد بلدك، موروثات قارّتك، واستنتاجات حضارة الإنسانية. أو ما يُسميه البعض للتسهيل بالفطرة الإنسانية.

ولهذا استخدمت كلمة “شبه” في وصف الصفحة البيضاء التي نولد بها؛ لأنك تولد صفحة بيضاء بها بعض النقوش الخفية من اللاوعي الجمعي.

والآن .. ما علاقة كل هذا بصورتك الذاتية؟ .. حسنًا .. كل ما سبق يؤثر بشكل كبير في تكوين شخصيتك الحقيقية، والتي لا تعرفها بالكامل؛ وبالتالي لا تعرف نفسك أو ذاتك بالكامل. فإذا طلب منك أحدهم أن ترسم لنفسك صورة ذاتية صادقة بأجود أنواع الفحم .. فلسوف ترسم “سي في” فارغًا، ولن تجد ما تجيب به على سؤال تلك المرآة التي تعترض طريقك بين دورة المياه وغرفة النوم.

 

رسم صورة ذاتية صحيحة

وما الحل؟ .. الحل ليس بسيطًا، ولكنه يبدأ بخطوتين:

الأولى .. معرفة أنك لا تعرف:

لا تتعامل بكبرياء مع أحزانك بإنكارها .. ولا تُهِنْ نواقصك بإخفائها .. ولا تخجل عن عيوبك .. ولا تتفاخر بمميزاتك.

والثانية .. أن تسعى إلى أن تعرف:

اعلم أن لك الحق في أن تقضي ما تريد من الوقت مع تلك الأحزان بالبكاء ثم التفكير والتحليل .. واعلم أن نواقصك هي جزء من طبيعتك البشرية .. واحترامها يعني النظر إليها .. والنظر إليها يعني محاولة فهمها .. ومحاولة فهمها لا بد وأن تؤدي إلى التصالح معها .. وبالتالي القدرة على تغييرها دون تعالٍ أو إنكار.

واعلم أن المشاعر ليست مجردة، ولكنها تُعرّف بمن يشعر بها .. فالبكاء في مطلقه ليس ضعفًا، ولكن بكاء الضحية ضعف .. وبكاء القوي رقة قلب، والخوف في مطلقه ليس منقصة، ولكن خوف الإنسان من غيره سُبّة، وخوفه على غيره مكرمة.

واجِهْ نفسك بأنك لا تعرفها، ثم اسعَ لمعرفتها. وإن علمت عنها ما لا يسرّك لا تُعيّرها، وعاملها بالحسنى، وكن صديقًا مقربًا لها على مقهى، أو جلسة بشرفة بيت هادئ صيفي؛ تتناقشان في أمركما وكيف يُمكن إصلاحه..

كن صديقًا لنفسك .. لا يباغتها بالجلد والنقد، ولكن يُطمئنها بالفهم والوعد.

وأخيرًا .. ما هي أول أعراض مرض الجهل بالصورة الذاتية؟

انتقاد الآخرين.

 

مراجعة لغوية: عبد المنعم أديب

المقالة السابقة3 تدريبات للاختلاف دون خلاف
المقالة القادمةيا فاتن تمسكي بالأمل وحاربي

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا