“متجَرَّحوش الورد بلاش”.
– “سماح” فتاة 13 عامًا، كانت تعمل معي بالصيدلية عاملة نظافة وتوصيل طلبات. وبالرغم من أنها لم تتعلم لكنها كان لديها من الطموح والرغبة في الهروب من حياتها ما أهّلها لئلا تتوقف عند رُتبة عاملة نظافة، فتعلمت الحروف الأبجدية ومع الوقت أصبحت تستطيع قراءة الروشتات بالشَبَه.
هي ابنة لأسرة فقيرة، لديها أخ وأخت أصغر منها. أمها تعمل هنا وهناك لكسب أي قرش، أما أبوها فعاطل معظم الوقت، إذ كلما التحق بوظيفة سُرعان ما يتركها بحِجة الملل، بساطة الراتب، البحث عن وظيفة أفضل، دون الأخذ في الاعتبار أنه رب الأسرة وعليه تحمل مسؤولية الآخرين، بدلًا من أن يُسَرِّح زوجته وابنته للعمل من أجل أن يجد مصاريف الدُخان أولًا، ثم أكلهم وشُربهم ثانيًا، لو تبقى شيء!
حكت لي “سماح” أن والدها دائم الضرب لها هي ووالدتها، أما أخوها فهو ذكر.. الذكر لا يُضرب!
كانت تُضرب ضربًا مُبرحًا لأتفه الأسباب، أرتني يومًا علامات حرق وضرب بالحزام بجسدها لأنها تأخرت في طابور العيش. “سماح” حاولت حرق نفسها حين كانت في العاشرة، محض طفلة لكنها كرهت حياتها ويئست حد الانتحار، لتنقذها أمها وتعيش بآثار حروق شديدة في ساقها، ويصبح منتهى أملها ألا يتعذّر زواجها بسبب تلك التشوهات.
حين وصلت إلى الثالثة عشر بدأ الخُطّاب يطرقون بابها، كانت تقبل لتهرب من منزلها وتعيش حياة آدمية، لكن والدها كان دائم الرفض، لأنها حين تتزوج “مين اللي هيصرف عليهم؟!”، فأخوها لم ولن يعمل كأبيه.
كُل خِطبة تتذلل لوالدها ليوافق وتَعده أنها ستظل تعمل بعد الزواج وتمنحهم راتبها كالسابق، بل وستُجهز نفسها دون أن تمس راتبها. تمت خطبتها مرتين، فكان أصحاب العمل يمنحونها أي شيء تستطيع الاستفادة به فتُخبئه بالصيدلية، وكانت تدّخر معي أموال “التيبس” والعيديات حتى لا يكتشفها والدها، وكُلما اكتمل معها مبلغ ما تشتري شيئًا من الجهاز وتطلب مني أن أدَّعي أنني منحته إياها إذا ما سألني أحد أفراد أسرتها.
غير أن والدها كان كل مرة يفسخ الخطبة دون أسباب، سوى أن “كيفه كده”، وكنت أتعجب لماذا تصبر!
وكثيرًا ما حرّضتها أن “تبلغ عنه” ليَكُف عن التَعَرُّض لها، خصوصًا حين بدأ أخوها هو الآخر ضربها، وأصبحت تأتي بكدمات جديدة كل يوم، لكنها كانت تخاف إن هي أنقذت نفسها أن ينتقم أبوها من أمها وأختها الصغيرة.
وحتى لحظة تركي العمل لم أفهم أبدًا سر تمسك والدتها بذلك الرجل، بل وإنجابها المستمر منه! ففعليًا هي وبناتها من يصرفن على المنزل، فلمَ يحتجنه وهو عويل وعبء مادي ونفسي عليهن؟!
“ده الشوك رخيص وساعات ببلاش”.
– “انتصار“.. امرأة في أواخر العشرينيات، متزوجة من رجل يتركها تعمل في خدمة البيوت، ويعيش هو “على قفاها”. ورغم أنها كانت تعمل بمرتب محترم لم يكن أي خريج جديد يحلم برُبعه، لكن زوجها اعتاد ضربها وإهانتها، لتذهب للعمل بكدمات وهالات سوداء معظم الوقت، إذ لم يكن يكتفي بمرتبها، بل يُطالبها بفرض زيادة بالمرتب على مخدوميها من وقت إلى آخر، وإلا حرمها من العمل بعد أن يُذيقها علقة ساخنة.
كانت ترضخ لحاجتها إلى المال، إلى أن أخبر صاحب المنزل زوجها أنهم رفضوا الزيادة ورفدوها لأنها كثيرًا ما تعتذر أو تأتي مُجهدة. كانت تلك خطة على زوجها، فحين يجد مصدر دخله قد نضب سيتركها تعود للعمل بالمرتب المعتاد، ولن يستطيع أن يمنعها من الخروج أو يُعاود ضربها، لأنها وقتها ستهدده بالمكوث في المنزل، ونجحت الخطة.
“حتى إن خاصمكو الحظ مجاش.. ما تجرَّحوش الورد”.
“سماح” و”انتصار” تمامًا كاسميهما، كانت تلك هي تصوراتهما عن الحياة، فـ”سماح” تُسامح والدها وتلتمس له الأعذار، أما “انتصار” فكانت تعتبر قدرتها على الهروب من “عَلقة” جديدة أو ادخارها مبلغًا من المال انتصارًا على زوجها البلطجي.
عينات لشريحة من المجتمع، إذا استخدمت معها كلمات مثل حقوقك وحريتك واختيارك ستبدو تمامًا كما لو كُنت تتحدث الصينية، لأنه للأسف لم يزرع بهما أحد أبسط معاني الكرامة، حُب الذات، الدفاع عن النفس.
رُبما كانت “سماح” و”انتصار” لا تعرفان بعضهما بعضًا، لكنهما مجرد امتداد إحداهما للأخرى، إذ مع استمرارية الوضع ستتحول “سماح” إلى “انتصار”، وستُنجب “سماحات” صغيرة تُعدن الحدوتة من الأول.
الإتجار بالبشر لم ولن ينتهِ، هو فقط يتَحَوَّر من وقت إلى آخر مُتخذًا أشكالًا أكثر اعتيادية، حتى لو رآها البعض لما تعجّب أو استنكر، يتخلل أنظمتنا الاجتماعية فيُضعف جذورها ويُشوهها أكثر وأكثر، ليصبح كل شيء عاديًا ومُباحًا تحت سطوة مَن لا حَق ولا قلب
له، ليتحوّل المجتمع إلى مجموعة من الـ”فامبيرز” يمصون دماء وأرواح من لا صوت لهم.
للاستماع : أضغط هنا