قديمًا كنت أشتري لابنتي ما يناسبها من ملابس، بغض النظر عن الصور المطبوعة عليها، فاشتريت لها قميصًا أسود عليه صورة لسبايدر مان. كانت تحب التلوين في كراسات سبونج بوب، وشخصيتها المفضّلة للعب كانت باز يطير وشلبي سوليفان. أحضرنا لها حقيبة المدرسة للعام الماضي زرقاء تحمل أشكالاً المينيونز الشهيرة.
هذا العام.. قررت ابنتي أن تكون كل هدايا عيد ميلادها تتمحور حول العرائس المشابهة لباربي، وأن يكون لون حقيبتها المدرسية الجديدة ورديًا يحمل شكل القطة كيتي، عبثًا حاولت إقناعها بألوان حقائب أخرى أو شخصيات مختلفة ولكنها أصرَّت. لأكتشف فيما بعد أن صديقاتها في المدرسة كن يضايقنها بسبب حقيبتها المدرسية، فلكونها في مدرسة للبنات فقط كان لون الحقائب المكتسح هو اللون الوردي بشخصيات الأميرات، فكان اختلاف ابنتي واضحًا، وربما أيضًا مضايقًا لهن.
تضايقت بالطبع من استسلام ابنتي وخضوعها، وغضبت من البنات الصغيرات والعائلات التي تربّي بناتها بأسلوب قديم، حتى قرأت كتاب “صورة المرأة في أدب الأطفال.. التشكّل والإشكال” لـ د. محمد سيد عبد التواب، وعلمت أنني أيضًا قد أكون جزءًا من المشكلة.
صورة المرأة التي تتكوّن في ذهن الأطفال
فاجأني المؤلف في هذا الكتاب أنني قد أرسخ في ذهن ابنتي دون قصد، صورة المرأة النمطية الموجودة في أغلب قصص الأطفال، ولا يقتصر الأمر على اللون الوردي وارتداء الفساتين وقلة الحيلة الغالبة على أفعال البطلات، بل إن الأمر يمتد لما هو أكثر من ذلك بكثير، وما قد لا تلحظه العين المعتادة على قراءة أدب الأطفال منذ الصغر، ولكن لأن عين وعقل الأطفال لا يزالا بكرين، فهما يلتقطا هذه الرسائل بسهولة، وتظل في عقله الباطن وتكون هي فيما بعد الأساس لتصرفاته.
يعرض د. محمد في الكتاب تشريح كُتّاب آخرين، وتشريحه الشخصي لمجموعة ضخمة من قصص الأطفال المنشورة في العالم العربي، حتى هذه الموجودة في المناهج الدراسية لمراحل التعليم المبكرة.
في البداية.. يجدر ذكر أن أغلب قصص الأطفال كتبها رجال، وبدؤوا بكتابتها قبل المرأة بسنوات كثيرة، وكانت سمات الأنثى في هذه القصص تتراوح بين: العجز عن التفكير السليم، الحاجة إلى المساعدة والسند، الإلحاح والجهل والثرثرة، تدبير المكائد. بينما كانت الصفات الذكورية تتراوح بين القوة والشجاعة والاجتهاد والقناعة والأمانة، حتى الغرور الذكوري كان غالبًا ما يكون صفة غير مكروهة في الرجل.
انشغال الأنثى بجمالها ومظهرها الخارجي انعكس على تصوير الأنثى في قصص الأطفال، فالفتاة الطيبة الرقيقة ذات الأخلاق النبيلة، تكون جميلة بشكل لا يُصدِّقه عقل، أما الشريرة الحاقدة سيئة الخُلُق، فهي دميمة الوجه ومنفرة الملامح، يتبع هذا أيضًا انشغال المرأة الدائم بالتوافه، مثل المجوهرات والزواج من الأمير وأن تكون الواحدة منهن أجمل امرأة في المدينة أو في العالم. كما كان غالبية الأشرار في هذه القصص نساء. وبشكل خاص يجب أن تكون زوجة الأب شريرة (فيما يعرفها الكاتب بعقدة سندريلا) والتي كانت في الأصل في حواديت الأخوين جريم هي الأم نفسها، ثم حرّفتها ديزني فيما بعد لتكون زوجة أب.
الأنثى ضعيفة بحاجة للسلطة الذكورية
انتقل الكاتب من القصص العالمية التي كُتبت قديمًا في عصر كانت المرأة في الواقع بلا حيلة بالفعل، إلى القصص العربية التي كُتبت في خمسين عامًا ماضية، والتي لم تحمل اختلافًا كبيرًا عن القصص التي قدمتها ديزني قديمًا، فالأنثى في هذه القصص لا تزال ضعيفة بحاجة دائمًا للسند والرعاية، ولا بد من سلطة ذكورية على الإناث داخل الأسرة، سواء من الأب والزوج أو من الابن الطفل، فالأسرة تكون بأمان إن كان فيها ذكر، حتى وإن كان طفلاً.
كذلك فإن المرأة لا تعمل في قصص الأطفال، وإن عملت ففي الكثير من القصص يكون هذا العمل للحاجة فقط، التي تكاد تكون الدافع الأوحد لخروج المرأة من المنزل، وهذا يكون غالبًا لعدم وجود الأب لأي سببٍ كان. وهذا أمر منافٍ للواقع، فالمرأة في العالم اليوم تعمل مثلها مثل الرجل، وأحيانًا تعمل أكثر من الرجل.
عمل المرأة في قصص الأطفال أيضًا يكون في أضيق الحدود، فهي إما طبيبة أو ممرضة أو معلّمة، هذه هي أشهر وظائف المرأة في قصص الأطفال، ونادرًا ما تظهر كفلّاحة أو مديرة مدرسة أو بائعة في متجر. في مقابل ذلك فالرجل بالطبع يمتهن كل المهن في أدب الأطفال، موجِّهًا عقل الطفل بشكل لا شعوري إلى أن المرأة لا يمكن أن تعمل في مهن أخرى.
إن كان الرجل صاحب القلم الموجَّه للطفل وضَعَ المرأة في هذا الشكل النمطي الذي لم يتغيّر منذ عشرات السنوات، فهل أنصفت المرأة الأقلام النسائية؟
حسب الدراسة التي أجراها د. محمد في الكتاب، فإن صورة المرأة التقليدية في أدب الأطفال لم تتغير بشكل كبير في أعمال الكاتبات النساء، بل أنه قد وجد بعض القصص التي كتبتها سيدة ولا تحتوي على أي شخصية نسائية في جمسة أجزاء للقصة.
التمييز الجنسي ممتد من المحتوى إلى العنوان
هناك المزيد من التمييز الجنساني في قصص الأطفال، والذي يمر تحت أنوف الأهل دون الانتباه له، فالفتاة مكانها الطبيعي للعب يكون داخل المنزل، بينما الفتى يلعب في الحدائق والملاعب.
لعب البنات رقيق ويتّسم بالأدب، في المقابل لعب الأولاد يتسم بالتمرد وكثرة الحركة.
تظهر البنات في القصص متعلقات بالدمى والعرائس وبأمهاتهن شخصيًا، بينما الأولاد قليلاً ما يتعلقون بلعبة أو بشخص ويتمتعون بالاستقلالية وتحمل المسؤولية.
يمتد الأمر إلى عناوين القصص، فنجد “الفارس الشجاع” و”الطبيب الماهر” وعلى الجهة الأخرى “الأميرة المخطوفة” و”فرحانة وسر جمالها”. والأمر لا يقتصر فقط على الإنسان، بل كل هذه الأمور تنطبق أيضًا على الحيوانات، إن كانوا هم أبطال القصة، فالديك ذكي والحصان شجاع، بينما القطة طمّاعة والبقرة سمينة.
ربما يكون الأمر قد تطوّر قليلاً في السنوات القليلة الماضية، ولكن لا تزال هناك العديد من المشكلات الكبيرة التي تراها عين د. محمد الفاحصة، وتتمثّل في عناوين القصص والرسوم المصاحبة، فلا تزال النسبة الأكبر من القصص تعطي أولوية الحركة والصفات الجيدة للأولاد، بينما لا تزال الفتيات تستمتع بالطبيعة وتبحث عن الجمال.
هنا أطرح مثالين لقصتين أحببتهما وكنت أقرؤهما لطفلتي، الأولى هي “فرحانة وسر جمالها”، وفيها فرحانة (وهي طفلة سمراء ذات أنف كبير وشعر مجعّد) تتعرض للتنمر من طفل معها في المدرسة، تحاول أن تتغير كي يتوقف عن أفعاله، ثم في النهاية تستطيع التوصل لطريقة توقفه عند حده. القصة بالفعل جيدة، ولكن إن طبقّنا نظريات د. محمد عليها فإن القصة لا يمكن أن تحمل نفس التفاصيل لو كان بطلها ذكرًا، فالطفل لن يهمه شكله وسيكون وقتها التنمر على قوته البدنية على سبيل المثال. كما أن عنوان القصة كان يمكن أن يكون “فرحانة الشجاعة” أو “فرحانة القوية”، ولكن الكاتبة آثرت استخدام “سر جمالها” لأنها في النهاية أنثى.
القصة الأخرى هي “كابتن شيرين”، وفيها تستطيع الفتيات منافسة الصبيان في لعب كرة القدم، ومفاجأتهم بمهارتهن في هذه اللعبة الذكورية. جميل للغاية، ولكننا نجد أيضًا في القصة أن الفتيات ثرثارات، وتهتممن بإحضار الطعام بينما لم يفكر أي من الأولاد في مثل هذه الأمور. القصة بالطبع لطيفة، ولكن إن أطلنا النظر لهذه التفاصيل الصغيرة، سنجد أنها بالفعل تُرسِّخ في عقل الأطفال اللا واعي دور كل الولد والبنت في المجتمع.
التأثير حقيقي على الأطفال
قد يقول البعض إن هذا التحليل هو نوع من استنباط معانٍ غير مقصودة، وأن الأمر أبسط من ذلك والأطفال لا يلتفتون لكل هذا الهراء. وردًّا على ذلك يستعرض الكتاب تجربة أقيمت على أطفال إحدى المدارس الابتدائية في الفيوم، حيث طُلب منهم كتابة قصة من تأليفهم، وكانت النتيجة أن جاءت كل القصص محمّلة بالملامح المذكورة سابقًا في المقال بشكل أو بآخر، فمن أظهر زوجة أب شريرة متسلطة، وآخر أظهر الفتيات ثرثارات، وأخرى جعلت مكان الأم هو المطبخ بينما مكان الرجال هو الصيد ومجالس السمر.
وكما كانت هناك بعض القصص الإيجابية بأقلام البالغين، فقد هناك أيضًا القليل من القصص التي تحمل بصيص الأمل في كتابات الأطفال، وظهرت فيها المرأة والفتاة في أدوار إيجابية ومستقلة، ولكنها بالطبع لا تزال نسبة ضئيلة للغاية، تتناسب مع النسبة التي أظهرها الكبار في كتاباتهم.
في النهاية.. يطرح الكاتب محاولات الدول الأخرى لتغيير المفاهيم السائدة عن الجنسانية في أدب الأطفال، وهذا عن طريق توزيع عادل لأدوار الجنسين في القصص، ووجود عدالة في تقسيم السمات الجسدية والنفسية بين الرجل والمرأة، فهل يمكن أن يُطبّق هذا الأمر على أدب الأطفال في عالمنا العربي يومًا ما؟ أتمنى هذا.
المصدر: صورة المرأة في أدب الأطفال: التّشكُّل والإشكال، د. محمد سيد عبد التواب، إصدار الهيئة المصرية العامة للكتاب 2014.