ماما خديجة.. وفي قول آخر “أم الثوار”

642

عزة

تم نشرة في 04/06/2017

وقت القراءة : 3 دقيقة

 

تمر الأيام وتُمحى الذكريات، لكن ذاكرة الفيسبوك في موعدها السنوي الثابت عامل جديد من عوامل الوجع التي لا ترحم. مقاهي وسط البلد وسور الجامعة الأمريكية وتحت تمثال عمر مكرم، كلها أماكن بما تحمله من رائحة الذكريات وأرواح طائفة تعيد تلاوة كل ما كان.. لا ترحم.

تمر الأيام وتُمحى الذكريات ويبقى حدث وحيد بطلاً لذكريات جيلنا، حدث نعايشه في كل مناسبة ومع كل أغنية وطنية وفي كل عيد قومي، نعايشه بأوجاعه وفخره وخيباته وانتصاراته في آن.. ثورة يناير والورد اللي فتح في جناين مصر.

 

بين عشية وضحاها انقلبت الموازين واستطعنا أخيرًا الرفض والصراخ.. ركب من ركب وكذب من كذب، لكنها تبقى الذكرى الأقوى التي ترتكز عليها أرواحنا في أوقات الضعف وفقدان الثقة، تبقى هي أهم ما صنع ما نحن عليه الآن من تمرد وقوة ورفض للخنوع والظلم والتسلط.

صراعات نجحنا فيما نجحنا وأخفقنا فيما لم يُقدَّر لنا، من أول الـ18 يومًا وحتى محاولة إثبات مصرية تيران وصنافير. لا تتسع جلسات السمر لكل تلك الذكريات رغم مرورها بعقولنا وكأنها للتوّ بدأت، لا نصدق أنها صارت ذكريات ومر عليها ست سنوات وأكثر.

وفي خضم كل ما دار كنا نفتقد الحضن والحنوَّ وما يدلنا على أننا على صواب لنواصل.

***

في نهاية السنة الأولى للثورة كنت أعمل في الصحافة، ووقتها وقعت حادثة “ست البنات” التي تعرّت في الميدان ووُصِمت بشائعات دنيّة في الكثير من قنوات الإعلام الهابط، فقررتُ حينها كتابة تحقيق صحفي عن بنات التحرير. ولما حاولتْ الشرطة العسكرية فض الاعتصام ذات صباح، كان أكثر ما هزَّني صورة لامرأة ستينية تحمي فتاة شابة من الضرب. فيما بعد عرّفتنا السوشيال ميديا بهذه السيدة.. خديجة الحناوي، 69 سنة، وفي قول آخر “أم الثوار”.

أطلق عليها شباب الاعتصام هذا الاسم، وبصدفة أشبه بالاتفاق لم ينادِها أحد بـ”طنط، مدام، حاجة…”، وإنما “ماما” أو “ماما خديجة”.

كان اتفاقًا ضمنيًا فيما بيننا -إخوة الميدان- على مناداتها بـ”ماما”، ربما لِما لمسنا فيها من وجه الأم الذي افتقدناه ونحن نحوك الحيل ونؤلف الكذبات البيضاء لننزل الميدان دون إخبار أمهاتنا، أو ربما رأينا روحًا لم تتشبع بأفكار انهزامية كجيل النكسة وربكة الانفتاح والحلم بفيديو ومروحة من الخليج ومتابعة أفلام المقاولات، كما أنها ليست أمًا ممن وصمننا بـ”عيال التحرير”. إنما كانت أمًا مُشبعة بمعاني الأمومة، من سند وحب وتوكل على الله وثقة فيه وفينا.

 

بحثتُ كثيرًا عنها في الميدان وسألت كل أصدقائي ممن يكونوا قد يعرفونها، حتى التقيتها صدفة في مسيرة لدعم “ست البنات” وهي تهتف “أيوة لابسة عباية كباسين…” و”ارفعي راسك ارفعي راسك…” إلى آخره. كانت أمًّا وحيدة لا تلقي باللوم على الضحية، أول أم نراها معتقدة فيما نؤمن به ولا تبرر ولا تُسقِط علينا فشلها في حماية نفسها وعُقَدها الاجتماعية. أم تدعم إحدى بناتها وتدافع بشراسة رغم انعدام الحيل. كانت الحضن والحنوَّ وما دلَّنا على أننا على صواب.

وفي الزحام لم أستطع أن آخذ منها أكثر من رقم هاتفها واكتفيت.

***

ماما خديجة التي لم تتغيب عن اعتصام أو مسيرة أو مليونية من أول جمعة الغضب وحتى سقوط حكم الإخوان، أقامت في أول رمضان بعد الثورة إفطارًا رمضانيًا ضخمًا في بيتها، دعت إليه مصابي الثورة والخارجين من السجن العسكري وأبطال الميدان. من أول اعتصام مارس وبيتها كان مفتوحًا للمعتصمين، وكما روت لجريدة الوطن فقد خصصت جانبًا منه للأولاد وجانبًا للبنات، ولما خافت من وجود دخيل أو مندس بين الثوار في بيتها حمت البيت بقولها “حسبي الله في اللي يعمل في أمه حاجة غلط”، هكذا بتلك البساطة.

 

ما الدافع لامرأة على مشارف السبعين لتعرض نفسها للضرب والغاز وربما رصاصة طائشة أو خرطوشة تستقر في وجهها وتخلِّف ندبة على روحها أو تفقدها نور البصر؟! ما الدافع سوى إيمانها الصادق بشباب خرجوا في سبيل الـ”عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية”، فلم تكتفِ بالتأييد والدعاء، وإنما نزلت تساند بما تبقى لها من صحة وبما شحنته من إصرار!

***

خديجة الحناوي توفيت عنها أمها وهي شابة صغيرة، وكبر أولادها ليشقُّوا طريقهم خارج البلاد، فهل خنعت تلك الأم التي اختبرت الوحدة والفراق حتى خطّا طرقهما على ملامح وجهها؟ بالعكس، صارت أمًا لكل شباب الميدان، واستشهد الكثير من أبنائها أبناء الميدان، حتى أن منهم من مات بين يديها، فلم تخفت عزيمتها، بل شعرت بالمسؤولية تثقل يومًا بعد يوم.

***

في الليل اتصلتُ بها لآخذ منها إجابات تفيدني في تحقيقي الصحفي “بنات التحرير”، لم تهتم بمن أنا ولا لأي جريدة أكتب، فقط استغلت الفرصة لتدافع عن بنات التحرير وتؤكد انتماءها إليهن، كانت تحاول إقناعي بما أنا مقتنعة به أصلاً، ولما عرفتْ قناعاتي قالت لي “اكتبي الكلام ده يمكن حد ميعرفوش ويقراه ويصدقه”، كانت فقط تفكر في ضم ولو فرد جديد للاعتصام، أو حتى تكسب تأييدًا جديدًا، ربما يكون النواة التي تسند زير الثورة، وفي نهاية حديثها رددت الكثير من الدعوات والدعابات كأم مصرية “ستاندرد”، ثم سألتها كيف أعطتني رقمها بهذه البساطة “يعني مخفتيش؟ مش يمكن أكون أمن دولة ولا حاجة!”، فكان ردها العفوي “خليها على الله!”.

في مسيرة أخرى للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين من السجن الحربي قابلت ماما خديجة، فذهبت لأُسلم عليها وأذكرها بي، وبالوقوف أمامها لم أستطع منع نفسي من احتضانها قبل أي كلام، فاحتضنتي بصمت وربتت على ظهري دون أن تسأل من أنا، وأكملنا المسيرة.

المقالة السابقةيوم اليتيم.. هنعمل حفلة للوجع
المقالة القادمةلكل أم لأول مرة: نصائح هامة للأمهات في تربية الأولاد والبنات

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا