كرب ما بعد الصدمة في الحرب والحب والتنمر

2518

هي المرة الأولى التي أقف عاجزةً أمام لوحة المفاتيح، كيف أبدأ؟ ومن أين أبدأ؟ وأنا أدرك أني مقبلة على سرد مشاعر قابعة في أكثر أركان روحي سوداوية. كيف أعري مشاعري وأفتح الجرح المغلق لأحكي للناس، 3 محطات في حياتي، أو للدقة صدمات، لعلني أتطهر من أوجاعي، وتشجع حكايتي غيري ليحكي؟ بالكتابة أستطيع ترتيب أفكاري ومشاعري أيضًا، وبالكتابة أمد يدي لغيري الغارق في أفكاره ومشاعره، ربما تتشابه حكايتينا، فأكون لحظة التنوير التي تساهم في كشف العلة. اليوم أكتب بلا اسم، لأكون صوت كل من عانى من كرب ما بعد الصدمة، فأنا -وللغرابة- أعاني من هذا الكرب لثلاثةِ أسبابٍ/ صدماتٍ مختلفة، اكتشفت آخرها منذ أقل من شهر! في الحرب والحب والتنمر.

كرب ما بعد الصدمة

نشأت في بيئة حروب، حيث القصف والرصاص والدم والشهداء كلمات عادية متداولة كل يوم، رغم ذلك لم أكن أعرف أني أعاني من كرب ما بعد الصدمة، لأني كنت أجهل المصطلح. كنت أظن أن الأعراض التي لديَّ من خوف وقلق وكوابيس إنما هي اكتئاب أو قلق مرضي نتيجة الأحداث المؤسفة التي أعيشها يوميًا، اكتئاب أُجبرت أن أتعايش معه، لأنني حيث أعيش لا يوجد علاج نفسي جيد وآمن.

المرة الأولى التي تعرفت فيها على مصطلح كرب ما بعد الصدمة كانت من تدوينات الكاتبة والناشطة “ياسمين مدكور”، التي تزامن خروجي من علاقة عاطفية مؤذية مع خروجها من علاقة أشد إيذاءً. عندها اكتشفت أن اضطراب كرب ما بعد الصدمة يختلف تمامًا عن الاكتئاب، وأن كثيرًا منا يخلط ما بين المصطلحين لتشابه بعض الأعراض.

الفرق بين كرب ما بعد الصدمة والاكتئاب

الاكتئاب هو حالة من الحزن، تستمر لمدة أسبوعين على الأقل بسبب ضغوط أو أحداث سيئة متتالية، يفقد معها المصاب اهتمامه بأنشطته المعتادة وقدرته على القيام بأبسط المهام اليومية.

أما كرب ما بعد الصدمة، فهو اضطراب نفسي يحدث بعد تعرض الشخص لصدمةٍ عنيفة، تتمثل في خطر مفاجئ أو مشهد مفزع أو سماع خبر مفجع، أو كل ما يشكل صدمة نفسية تترك الإنسان في حالة انعدام اتزان نفسي، تسبب له الفزع، الذعر، القلق، الكوابيس، استعادة الذكرى في اليقظة، الغضب الشديد، التشتت وانعدام التركيز.

أعاني من كرب ما بعد الصدمة، لأن حياتي سلسلة من الصدمات، حروب، إيذاء نفسي، تنمر. وأحكي اليوم حكاياتي إيمانًا مني بأن الحكي بداية العلاج.

الحرب: عندما يصبح غير العادي عاديًا للغاية

كما قلت في السطور السابقة، أعيش في بيئة حروب، حيث الموت يظلل بأجنحته على الجميع، القصف والغارات حدث اعتيادي جدًا، الدم والشهداء مصطلحات أساسية في حديثنا، الدمار اعتدنا عليه، تعايشنا مع الوجع والفقد و”الحزن مبقالهوش جلال يا جدع”.*

مع أول غارة يمطرنا بها العدو، أبدأ في فتح نوافذ المنزل حتى لا يسقط زجاجها فوق رؤوسنا، أداري فزعي وقلقي وأمازح من حولي ألا يخافوا، فالصاروخ الذي يقتلنا لن نسمع له صوتًا. أثناء الغارات أنا قادرة على التعامل، على طمأنة من حولي، وأعرف كيف أشغل نفسي عن الخطر المحيط بي، تبدأ أعراض كرب ما بعد الصدمة بعد زوال الخطر.

لا تخيفني الطائرات المقاتلة، لكن تقتلني قلقًا طائرات الاستطلاع، التي تحلق فوق رؤوسنا كل دقيقة، لها طنين واضح، لذلك درجنا على تسميتها “الزنانة”، سماعها نذير شؤم يوحي باقتراب الموت، وانتظار الموت أشد فتكًا من وقوعه. التوتر، القلق، الحزن مشاعر ترافقني دائمًا، استعادة مشاهد الحرب يحدث في أوقاتٍ غريبة ويعكر عليّ صفو ما تبقى من يومي، يحدث أن أتذكر مشاهد تعود لعشرين عامًا مضت شاهدتها وأنا طفلة على التلفاز.

تحدثني صديقتي منذ عدةِ أيامٍ، كيف أنها كانت تحدثني صوتيًا، بينما في خلفية حديثنا أصوات انفجارات، تخبرني كيف كنت أفزع مع كل غارة ثم أعود لاستكمال حديثي عما أعانيه في علاقتي العاطفية. تتعجب صديقتي من قدرتي على استكمال حديثٍ هو ليس بأهمية أن تكون حياتي في خطر، فأخبرها أني اعتدت الغارات والقصف، لكن الوجع العاطفي كان شيئًا جديدًا وأكثر إيلامًا. تصفعني صديقتي بالقول إن اعتيادي هذه الأشياء هو مؤشر خطر، وأن ذلك غير عاديٍ على الإطلاق.

الحب: ومن الحب ما أصابك بالعِلَل

لا أعرف من أين أبدأ، مجرد البدء في التذكر يجر عليّ أوجاعًا لا طاقة لي بها. حسنًا، لنبدأ بالقول إني ناجية من علاقة عاطفية مسيئة مؤذية مدمرة، اختر الوصف المناسب، فلا فارق عندي.

علاقة عاطفية بدأت بأحلامٍ وردية، واستمرت بالتهديد والخوف، وانتهت بكوابيس مستمرة حتى الآن، رغم انتهاء العلاقة منذ ستةِ أعوامٍ. نختلف فنتشاجر ثم يجب عليّ أن أعتذر وأبدي الندم، إن لم أحسن الندم والاعتذار كما يريد الآخر، تبدأ وصلات السباب، ثم التهديدات بإخبار والدَي وعائلتي المحافظة للغاية. ورغم معرفة أسرتي الصغيرة بهذه العلاقة، كنت أخجل أن تعرف العائلة الكبيرة، أو أن تصبح مشاعري مشاعًا للجميع، بعد أن ينفذ تهديده بنشر محادثاتنا على الملأ.

أتذكر يوم هددني للمرة الأولى بأن يكشف أمر ارتباطنا لوالدي، قضيت الليلة جالسةً على باب غرفتي المحاذية لغرفة والدي، أرهف السمع كي أتمكن من سماع المكالمة إن نفذ تهديده، ومع كل مكالمة تصل كان قلبي ينتفض فزعًا. لن أنسى يوم أخبرني أخي “مالك صفرا كده؟”، أنا المعروفة باحمرار وجنتَي دائمًا، وكان ذلك اصفرار الخوف بعد أن أطلق شريكي السابق سلسلة من تهديداته اللعينة.

كل سباب أسمعه في الشوارع أو أشاهده مكتوبًا على مواقع التواصل الاجتماعي، يذكرني بوصلات السباب التي كان يمطر أذني بها، فأغرق في الحزن والكآبة، كنت أحسد الأشخاص سريعي التأثر الذين يخرجون فاقدين لوعيهم جراء الصدمات، وألعن تماسك جهازي العصبي الذي لا يمنحني راحة فقدان الوعي ليكف ذلك الشخص أذاه عني.

انتهت تلك العلاقة وظلت آثارها المدمرة حتى الآن في شكل اضطراب كرب ما بعد الصدمة. علاقتي بالهاتف سيئة للغاية، فكل مكالمة من رقمٍ أجهله تعني نوبة فزع، كل كابوس يعني أسبوعًا من الاكتئاب الشديد، كل فلاش باك يداهمني فجأة يعني يوم شديد السوء.

التنمر: بعض الكلمات نور وبعضها قبور

6 أعوامٍ مرت، لكني لا أستطيع النسيان ولا التجاوز ولا المغفرة، ولا حتى الارتباط مرة أخرى، كنت أظن الحرب أسوأ تجربة قد أمر بها قبل أن يترك الحب في نفسي ما هو أسوأ، ثم أكتشف أن التنمر كان الصدمة الأسوأ على الإطلاق. يمكنني بكل بساطة أن أكتب مجلداتٍ عن معاناتي مع التنمر الذي بدأ منذ عشرين عامًا مع بدايات زيادة وزني، واستمر حتى يومنا هذا. فأن تكون مخالفًا للمقاييس الجمالية التي سَنَّها المجتمع لهو أمر يستحق معه أن تُرجم بكلماتهم حتى تنصاع وتصبح النموذج الذي يريدونه. وزني الزائد كان مادة خصبة لسخرية الساخرين، نقطة ضعف يضغط عليها الحاقدين ومادة دسمة لتنهال عليّ نصائح العائلة في كل مناسبة ومجلس، مع الكثير من التصعب ومصمصة الشفاه وتذكيري بقطار الزواج الآفل.

شكَّل كل هذا اكتئابًا، لكن الصدمة كانت في نوعٍ آخر من التنمر، وحتى شهرٍ مضى لم أكن أعرف أن التنمر سبَّب لي اضطراب كرب ما بعد الصدمة، وكلفني 12 عامًا من عمري. الواقعة تعود للسنة الثالثة في كليتي العملية التي تعثرت في دراستها بسبب ظروفٍ حياتية قاهرة، بدأت السنة بحماسةٍ شديدة، وقد قررت أن أقهر أي ظروف لأتمم دراستي، قبل أن يختار دكتوري الجامعي أن يقهرني أمام مجموعة من الطلاب بالقول: “ناوية تنجحي السنة دي؟”.

كانت الجملة صادمة. شعور بالخزي والضآلة انتابني وأنا أرى كل أعين الطلاب مصوبة تجاهي، لم أعرف بماذا أجيب، قلت: “إن شاء الله”، انتهت المحاضرة وبدأت علاقتي المضطربة بالكلية والجامعة ككل. لم أعد للجامعة في ذلك العام، وبدأت الأعوام تضيع تباعًا، فالذهاب للجامعة يعني نوبات فزع، حزن، توتر شديد، عصبية، شعور بالفشل والضآلة، ونتيجة ذلك أني انتهيت من كليتي العملية المقرر لها 5 سنواتٍ في 12 عامًا. وحتى بعد انتهائي من هذه المأساة، احتجت عدة شهورٍ حتى أستجمع قواي للذهاب لمرة أخيرة، لاستخراج شهادتي الجامعية، تلك الشهادة التي حملتها وكأنها صك تحرر من عبودية طالت كثيرًا.

الحكي بداية العلاج

أعلم أن حكاياتي السابقة لن تترك أثرًا لطيفًا في نفسك عزيزي القارئ، بل ربما مسَّت جرحًا، هذا المساس لا أقصد به الألم لأجل الألم، إنما هو الألم الذي يتبعه أمل بالعلاج. أول طريق العلاج خطوة، وأنا قد قطعت ثلاث خطواتٍ حتى الآن.

هذا الحكي هو اعترافٌ بأني مصابة باضطراب ما بعد الصدمة، وهذا الاعتراف أول خطوة. نزعت نفسي من كل محيطٍ يشع سلبية وكآبة، قطعت كل علاقة مسيئة، وتركت الحرب ورائي إلى بلادٍ أكثر أمنًا وأهم خطوة اعترافي بأن العلاج النفسي ضرورة وليس رفاهية، طلبت المشورة من أصدقائي، ورشحوا لي طبيبًا نفسيًا من أهل الثقة، وأنتظر أولى جلساتي العلاجية.

*جزء من رباعية للشاعر المصري صلاح جاهين.
المقالة السابقةمن هي فريدا كاهلوا ؟ قصة عبقرية ممزوجة بالألم
المقالة القادمةالچوكر: ضحك أراد أن يكون ضحكًا
كاتبات