عندما لم تعد الرياضيات كابوسًا يطاردني

568

تدق الساعة التاسعة صباحًا، داخل أحد فصول مدرسة البنات الثانوية، توزع أوراق امتحان مادة الرياضيات وكراسات الإجابة البيضاء، يعلو صوت دقات قلبي في الخلفية.. أنظر لورقة الامتحان بقلق شديد، لا أرى الأرقام ولا أفهم شيئًا من المكتوب، لا أستطيع الحل أو ابتلاع ريقي، تحولت الأرقام لطلاسم وإشارات غريبة لا يترجمها عقلي.

 

الوقت يوشك على النفاد. ألتفت حولي طلبًا للمساعدة، أتصبب عرقًا وخوفًا من السقوط. يرن جرس انتهاء الامتحان متزامنًا مع جرس المنبه في غرفتي. أستيقظ من نومي ألهث بشدة كمن أنهى مارثون للتو، تخبرني دقات قلبي المضطربة أن ما مضي كان أكثر من مجرد حلم، كان كابوس الرياضيات الذي هربت منه في الواقع ليطاردني في أحلامي كلما حانت له الفرصة.

 

من لا يعشق الرياضيات؟!

أنا.. بل أكرهها في الحقيقة، ولطالما خجلت من إجابة هذا السؤال فيما مضى.. بالطبع لم أولد بكرهي للرياضيات والعمليات الحسابية، بل نشأت في منزل كل من فيه يعملون ويتعاملون بالرياضيات كأنها “شربة ماء” من سهولتها بالنسبة إليهم، وحتى موعد دخول المدرسة الابتدائية.. تغير كل شيء، صادفت معلمًا فظًا نعتني مرّة بالغبية ومرات بالفاشلة المتخلفة، لأنني لم أكن أفهم منه شيئًا في الرياضيات.

 

لم أكن أعلم وقتها أن قدراتي المنخفضة في التعامل مع الأرقام ستعرضني لأبشع تجربة تنمر نفسية لاحقًا، والمفاجأة أن ذلك لم يبدأ من داخل منزلي المليء بمحبي الرياضيات ومتفوقيها، بل من داخل أسوار مدرستي الابتدائية.

 

يخبرنا مدرس الرياضيات أن من لا يتفوق في الرياضيات هو شخص غبي ومتخلف، لا يهم إن كان متفوقًا في اللغات وبقية المواد، أو كان طفلاً اجتماعيًا مرحًا محبوبًا، فقط لأنني لا أجري بعض العمليات الحسابية المعقدة على السبورة السوداء كقلب المدرس الواقف بجانبها فأنا غبية.

 

انتقلت من المدرسة لاحقًا.. ولكن كانت عقدة الرياضيات قد كبرت بالفعل لتنتقل معي، ليس فقط لمدرستي الجديدة ولكن لمراحل حياتي جميعها فيما بعد.

كان الأمر يتفاقم مع تقدم المراحل التعليمية.. كنت اقتنعت أنني غبية، بينما درجاتي في بقية المواد تقترب من النهائيات، بل تصل لها في كثير من الأحيان. إذًا فأنا لست غبية في المطلق، هناك شيء خطأ في هذه المعادلة بالتأكيد.

 

أبكي لأختي ما أتعرض له من مضايقات، تبدأ هي تستذكر لي، تبسط لي الأمور بطريقتها الهادئة، ولكن استيعابي يصل عند نقطة معينة ويتوقف، تعلم أن لي قدرات خاصة في الرياضيات، تأخذ نفسًا عميقًا وتخبرني بلطف “مش مهم تكوني متفوقة في الرياضة، بس المهم تنجحي وتعرفي الأساسيات، إنتي فعلاً متفوقة في بقية المواد” كنت أعشق التاريخ بالمناسبة. أرتاح قليلاً لهذه الفكرة.

 

في اليوم التالي يحين موعد درس الرياضة الخصوصي في المنزل، يتندر المدرس عليّ ويجعلني أضحوكة زملائي، يخبر أمي بأنني “مبستوعبش”، تخبره أمي بثبات انفعالي رهيب “بس باسنت شاطرة.. أنا واثقة”.. ثم تخبرني بعد أن يرحل مكبوسًا “اختاري مدرس تاني تكوني بترتاحي لشرحه، المستر ده مش هيديكي الدرس تاني.. إنتي شاطرة أنا عارفة”.

 

أتفق مع زملائي (أصدقاء عمري الآن) على الاستعانة بمدرس آخر، يتحسن الأمر معه كثيرًا لاحقًا. أحصل على درجات معقولة، يخبرني برفق أن الرياضيات تحتاج لممارسة، وأننا مختلفون في القدرات. كلماته وشرحه ينقذان ما يمكن إنقاذه، حتى يحين موعد امتحان الثانوية العامة، تعصف الرياضيات بـ11 درجة كاملة من مجموع درجاتي؛ أكرهها أكثر، لكنني أصر على تذكر ما قيل لي في المنزل “أنا شاطرة مش غبية”، ألتحق بدراسة الإعلام ويبدأ فصل آخر مشرق في حياتي.

 

خلال سنوات عمري بأكملها، كنت أخشى إجراء الحسابات الرياضية البسيطة، كحساب السوبر ماركت وأجرة المواصلات وفاتورة المطعم وما شابهها.. فأصبح أضحوكة المحيطين، وسرعان ما تنهال عليّ الأوصاف، “أصلها مبتفهمش في الحساب، يا عيني يا بنتي هتذاكري لعيالك إزاي؟ إنتي أي حد ممكن يضحك عليكي في باقي الفلوس، مش معقول! شكلك ميقولش إنك غبية في الرياضة”.. كأن المتفوقين يطبع على جباههم علامة الأيزو.

 

كنت أضحك في خجل واضح وأتندر على نفسي من باب مداراة الإحراج. دخلت المرحلة الجامعية، ووجدت نفسي أبدع وأتفوق فيما أحب، بدأت ثقتي بقدراتي تعود وتعلو تدريجيًا، بدأت أعي ما أتعرض له من تنمر وأتصدى له، والأهم أعي أن هناك فصين لدماغ الإنسان، أحدهما للألوان والإبداع والخيال واللغات والآخر للرياضيات والحسابات الهندسية المعقدة والاستنتاجات والعلوم وما شابهها. وأدركت أن الله رزقني بعقل له قدرات إبداعية خاصة، عملت عليها وأحببت عقلي الملون المبدع حتى الثمالة، وحينها تخلصت من عقدة الرياضيات، أو هكذا حاولت.

 

على مدار سنوات الدراسة كنت من المتفوقين في كل المواد، عدا الرياضيات، كان ذلك يُثير عجب المحيطين، حتى تقبلوا الأمر في النهاية.. فبالحسابات والأرقام (التي يعشقونها) أنا متفوقة! أحصل على تقدير يقارب الامتياز في جميع سنوات الجامعة، أتخرج بمرتبة شرفية ومشروع تخرج ضمن أوائل الدفعة، أتقدم في عملي الذي أحبه سريعًا وأدير منزلي ماليًا أفضل من وزراء المال والاقتصاد.. يصبح لديَّ طفلة لا أخشى من الاستذكار لها مستقبلاً، سأخبرها أننا مختلفون في القدرات ولسنا متخلفين كما أخبروني من قبل.

 

كان يمكن أن أنشأ غبية وفاشلة بالفعل، لكنني كنت محظوظة بما تلقيته من دعم مبكر، لذا تخصصت لاحقًا في الكتابة للأمهات عن قدرات أطفالهن، ليعلمن أننا مختلفات في المهارات والقدرات. أخذت على عاتقي مهمة حماية كل طفل في محيطي من التنمر، سواء تجاه قدراته العقلية أو مظهره الخارجي. لا يجب أن يمر أطفالنا بما مررنا به بعد أن صرنا أكثر وعيًا.

 

لم يعد كابوس الرياضيات يطاردني كالماضي، وإن حدث، أستيقظ أكثر ثباتًا وتحديًا.

 

يومًا ما جلست للحديث مع رجل ظننته ذا حكمة، ليخبرني “بس أنا مقياس حكمي على نجاح الناس وذكائهم مرتبط بتفوقهم في الرياضيات طبعًا”، أخبره علنًا “عذرًا لكن مقياسك غلط، كالحكم على سمكة إنها متقدرش تطير زي العصفور”، لم يفهم التشبيه، فأبتسم بحكمة قائلة “رغم إن حضرتك متفوق في الرياضة مفهمتنيش”. يصمت وجمًا وهو يعلم أنه بحساب الأرقام قد خسر الحوار 1-0 أتمتم لنفسي سرًا “شاطرة يا باسنت.. حتى لو ملكيش في الرياضة”.

المقالة السابقةفي بيتنا متنمر
المقالة القادمةدروس التنمر
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا