أنا امرأة قضيت حياتي بين قلمي وأدواتي وكتبي ودراساتي، وقد انصرفت بكل تفكيري إلى المثل الأعلى، وهذه الحياة “الأيدياليزم” أي المثالية التي حييتها جعلتني أجهل ما في البشر من دسائس.
لا أذكر بالضبط متى اكتشفت الصلة التي تربطني بميّ زيادة، كان الأمر أقرب لشعور مفاجئ بأنني أعرف هذه السيدة في الصورة الأبيض وأسود، بشعرها القصير، والفستان الدانتيل الفاتح، ربما كان لونه أبيض أو ورديًا أو موف، أفكر أنه كان أبيض، لأنها مثلي تحب الألوان الأحادية، وتحب الأبيض لأنه يختصر كل شيء.
اكتشفت وأنا أتطلع إلى الصورة أنني ربما كنت ميّ في حياة سابقة، تاريخ ميلادها هو نفس تاريخ ميلادي إنما قبلي بـ100 سنة، أدركت تفاصيل كثيرة عن حياتها دون أن أقرأها، أنها عاشت بالكتابة ومن أجلها، أنها أحبت كثيرين، وأحبها الكثيرون، لكنها كانت وحيدة، لم تستمتع بالحب يومًا، ولم تعش علاقة عاطفية عادية، مثل كل الأزواج الذين كانت تراهم يسيرون في الشارع، يسهرون في المطاعم، يرتادون السينما، يعيشون حولها. كانت تتنهد وتتمنى لهم السعادة، تعود إلى بيتها وحيدة، تنام على ظهرها، تتأمل السقف المظلم لساعات، تتساءل: ماذا لو كنت فتاة عادية، لا أتحدث تسع لغات، لا أمارس الكتابة، لا أصادق الكتّاب، لا أكتب في الصحف، لا يعشقني الجميع؟!
ميّ بعد موتها
أتمنى أن يأتي من بعدي من ينصفني، ويستخرج من كتاباتي الصغيرة المتواضعة، ما فيها من روح الإخلاص والصدق والحمية، والتحمس لكل شيء حسن وصالح وجميل، لأنه كذلك، لا عن رغبة في الانتفاع به
في عام 2016، عندما انتشر الإعلان الكاذب عن بيع ممتلكات ميّ زيادة في شقة بوسط القاهرة، والتي تشمل آلاف الرسائل والصور وتقاريرها الطبية وجواز سفرها، شعرت بإهانة، وكأن تاريخي أنا ينكشف، وكأن ممتلكاتي ستصبح مشاعًا.
يومها سافرت إلى القاهرة، وتمشيت في شوارع وسط البلد وحيدة، لم أستطع الوصول إلى العنوان، كنت أعرف أنها عاشت في عدة أماكن في وسط البلد، شارع مظلوم باشا، وشارع عدلي، وبناية خلف مبنى جريدة الأهرام القديم، لكني لم أتمكن من الوصول لأيّ منها. اكتفيت بالتجول وحدي، أنظر إلى البنايات القديمة الجميلة، وأتمنى لو تمكن بصري من اجتياز الحوائط، والنظر داخلها، كنت أبحث عنها، عن طيفها، ولم أصل لشيء.
ميّ معشوقة الكتّاب.. حيلة الزمان وأميرة البيان
وأنتِ معبودتي يا ميّ ما ظفرت عيني بتمثال حسن منك مرقوب- عباس محمود العقاد
كل النساء جميلات، لكن ميّ كانت فريدة، امرأة شابة يجتمع لديها كل ثلاثاء أدباء مصر ورموزها، يجلسون حولها وكأنها ربّة الأدب والجمال، يستمعون إليها، يتحدثون بإذنها، ويغرمون بها.
ولدت ماري إلياس زيادة في الناصرة بفلسطين عام 1886، تلقت دراستها الابتدائية في الناصرة، والثانوية في عينطورة بلبنان. عام 1907، انتقلت مع أسرتها للإقامة في القاهرة. عاشت حياتها بحرية لم تتوفر لدى بنات جيلها، عقلها لم يكن مثل بقيّة النساء، كانت تجمع بين الجمال والتحفظات الشرقية، والحرية والتفتح الغربي. إنها المرأة الكاملة في نظر الرجل إذًا، لهذا أنا أصدق كل حكايات عشق الكتّاب لها، إعجاب طه حسين ورسائل وليّ الدين يكن، وغرام مصطفى صادق الرافعي والشيخ مصطفى عبد الرازق، لكني أفكر أنها لم تكن حكايات حب حقيقية، بل كانت انبهارًا وقتيًا، إعجاب حاد انكسر بعد ذلك، من يمكنه أن يقاوم هذه الهالة المضيئة؟! من يمكنه ألا يطلب ود ست النساء الجالسة بكامل بهائها وسط صالونها الأدبي، تواكب هذا وتجادل ذاك؟!
لا يمكن ألا يقع كاتب في حب امرأة ذكية جميلة وموهوبة، الكتابة لها هيبة، ولها جاذبية، ومي امتلكت كل المفاتيح التي أوقعت حتى العقاد المتحفظ في غرامها. ربما أحبته هي أو وقعت أسيرة لشخصيته، ربما أحبت كاتبًا واثنين وثلاثة في وقت واحد، الحقيقة أن الموهبة نعمة ولعنة في نفس الوقت، والذكاء الحاد لا يسبب لصاحبته سوى المشكلات.
راسلت مي جبران خليل جبران لمدة 20 عامًا، وخلال ذلك أحبت العقاد، وسمحت له بالاقتراب أكثر من غيره. كانا يخرجان معًا، يذهبان للسينما، يتراسلان، ربما سمحت له باحتضان يديها وتقبيلها على جبينها. ربما ِأشعلت غيرته بلطفها مع الجميع. بينما كان يريدها له وحده، أراد أن يحبس الطائر الحر في قفص حبه فلم يستطع، يبدو أن اللحظة الحاسمة التي ابتعدت فيها ميّ كانت عندما أراد الاطلاع على رسائلها لجبران. بالنسبة لميّ كان هذا مستحيلاً، فابتعدت شيئًا فشيئًا. أعادت العلاقة إلى قواعد الصداقة من جديد.
لم تخن ميّ جبران مع العقاد أو العقاد مع جبران، بل كانت تفكر بأنهما في حقيقة الأمر قصتان مستحيلتان، يمكن الجمع بين قصتين مستحيلتين لأنهما لن تتقاطعا أبدًا، لن تتمكن من الانخراط التام لا هنا ولا هناك، لن تعيش الحب الصريح العلني لا مع هذا ولا مع ذاك. الحب بالنسبة لميّ هو فكرة مطلقة تسيطر عليها وتعيّشها في حالة نشوة ما، لهذا لم تصد رسائل الغرام ولا كلمات الإعجاب من الجميع، بل كانت تتعاطى معها أيضًا.
ربما هذا يفسر قدرتها على حب نقيضين، جبران الرومانسي المسالم، والعقاد العدواني الثائر. لكنها في النهاية اختارت الأقرب لقلبها وشخصيتها، حتى وإن كانت تعرف بأنه لن يصبح لها أبدًا.
مي وجبران وعلاقة الحب المستحيلة
ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به! ولكني أعرف أنك محبوبي، وأني أخاف الحب، أقول هذا مع علمي بأن القليل من الحب كثير. الجفاف والقحط واللا شيء بالحب خير من النزر اليسير، كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا؟ وكيف أفرّط فيه؟ لا أدري
لم ترد مي سوى أن تغرق في الحب، منذ مراهقتها ودراستها في المدرسة الداخلية وهي تنتظر فارسًا يحملها على صهوة حصانه، كانت كأيّ فتاة أخرى، حالمة ورومانسية، ربما أخفى ميلها للنسوية والدفاع عن حقوق المرأة هذه الرغبات، لكنها كانت في رحلة طويلة للبحث عن الحب، كانت تقع فيه بسهولة، وتنهيه بسهولة، لكنها لم تتمكن من الفرار من علاقة حب طويلة المدى، مؤذية للروح، وكاسرة للقلب مثل علاقتها بجبران خليل جبران.
أرى العلاقة بين مي وجبران علاقة مؤذية، ربما كان الاثنين يشبهان بعضهما، صوفيان رومانسيان رقيقان، جمعهما التاريخ المشترك والثقافة المشتركة وحب الأدب. لكن في حين أحبت ميّ جبران بحق، لم يحبها هو كما تمنت، لم يكلف نفسه مشقة السفر لرؤيتها، كان منشغلاً بنفسه، والشاعر الرقيق الذي يعشقه الجميع لم يعشق حقيقة سوى نفسه.
لكن ميّ تقبلت الوضع، وعاشت لهذا الحب الذي يغنيها عن الآخرين، أو يحميها من آخرين، تعلم أن حبهم سيؤذيها. أرادت فقط العيش بحرية. كانت تعاني من مشكلات في الالتزام، وكذلك كان جبران، فوجدا في هذه العلاقة الغريبة ما يناسبهما. عرفت ميّ أنها لو عاشت مع جبران، لن تتحمل علاقاته النسائية وهيامه كفراشة بين مختلف الورود، علمت أنها ستكرهه، وكراهية جبران شيء مرعب لم تكن قادرة على تحمله، لذلك كان عليها منع نفسها من الاقتراب.
300 يوم في العصفورية
أيكفي أن نحب شيئًا ليصير لنا؟ رغم حبي اللافح، أراني في وطني تلك الغريبة الطريدة التي لا وطن لها.
هذه الحياة الحافلة لم تكن في صالح ميّ، بل كانت مجرد مقدمة لوحدة كبيرة ستبدأ من عام 1931، بعد وفاة والدها، ثم وفاة حبيبها جبران خليل جبران عام 1932، ثم أمها في عام 1933. قسمت سلسلة الفقد ظهرها، وأصيبت بالاكتئاب الحاد، والذي أدخلت على أثره -كما تدعي عائلتها- إلى مستشفى العصفورية للأمراض العقلية، خوفًا على حياتها بعد انقطاعها عن الطعام.
والحقيقة أن ميّ كانت تعاني بالفعل من الاكتئاب والانهيار العصبي، وليس الجنون، لكن عائلتها استغلت استنجادها بهم، للاستيلاء على كل أملاكها، وحجزها في مستشفى الأمراض العقلية الذي كان سبب موتها. انكسرت مي، تحولت الأديبة الجميلة الأنيقة، التي تعزف على العود والبيانو، وترسم وتلقي الشعر، إلى شبح، وزنها أقل من 30 كيلوجرامًا، وحيدة.. وحيدة.
ابتعد عنها الجميع، نساها المحبون، انطفأت الهالة فانفض الفراش من حولها، الانبهار يختفي باختفاء الهيبة، الحب الحقيقي ربما يكون كذبة، لا حقيقة لدى الكاتبات سوى وحدتهن.
والوحدة بعد الزحام هي أقسى الأنواع، خذلان الأصدقاء والعائلة يكسر ويميت. الحقيقة أن هذا الجزء الغامض من حياة مي، كان دائمًا مصدر إلهام للمبدعين. الكاتب واسيني الأعرج تخيل أنه عثر على مذكرات مي التي كتبتها طوال فترة إقامتها في العصفورية، تقمصها، وتمكن من نقل المشاهد وكأنه عاشها، المشاعر وكأنها تلبسته، في روايته التي وصلت إلى القائمة الطويلة للبوكر لعام 2019، مي: ليالي إيزيس كوبيا.
أثناء قراءتي لهذه الرواية، عشت أنا أيضًا في العصفورية وسجنها الكبير، تعذبت بسجن ميّ وقهرها، بإجبارها على تناول الطعام وشق حلقها وأنفها بأنابيب التغذية، تخيلتها لا تقوى على النهوض، تتساءل أحيانًا هل الجميع على حق؟ هل جننت بالفعل؟ هل كانت حياتي كلها مجرد حلم امرأة مجنونة في مصح عقلي؟
ربما اهتزت ثقة ميّ في نفسها، لكن الأكيد أنها فقدت ثقتها في العالم، الأحباء الذين خذلوها، رواد صالونها الأدبي الذين أداروا لها ظهرهم، لا أحد سوى أمين الريحاني وبعض مثقفي بيروت، وقف إلى جوارها في محنتها التي استمرت تسعة أشهر. وفي النهاية وبعد ضغط شعبي وحملات صحفية ومطالبات نواب في البرلمان، خرجت ميّ من العصفورية، وانتقلت إلى مستشفى آخر، أقامت فيه بضع أسابيع قليلة، ثم إلى منزل بجوار صديقها أمين الريحاني للاستشفاء قبل العودة إلى القاهرة.
موت ميّ
هذا قبر فتاة لم ير الناس منها غير اللطف والبسمات، وفي قلبها الآلام والغصّات، قد عاشت وأحبت وتعذبت وجاهدت، ثم قضت.
عندما عادت ميّ إلى القاهرة، سكنت في بيت صغير مظلم وبارد، لم تعد تملك شيئًا، لا مال ولا طاقة ولا أصدقاء ولا أهل، كانت تقضي وقتها في القراءة والكتابة، لم يزرها أحد ولم تزر أحدًا. أصيبت بحالة شديدة من الوسواس القهري، أبعد عنها الجميع. خافت من تسميم طعامها وسجائرها وشرابها، شعرت أنها مهددة، وعاشت في رعب كبير لم تتمكن من الخروج منه. شاب شعرها وذبل جمالها. لم تعد الأيام هي الأيام، انتهى الشغف الذي كانت تستقبل به الصباح كل يوم ثلاثاء. لم تعد لكلمات مثل السفر، الخطابة، التعلم، الحب، نفس الوقع على أذنيها، لم تعد تهز قلبها، لم يعد لديها أيّ أسباب للتشبث بالحياة.
توفيت ماري إلياس زيادة، في مستشفى المعادي في 19 أكتوبر عام 1941. تولت السيدة هدى شعراوي تكاليف دفنها في المقابر المسيحية في القاهرة، ولم يمش في جنازتها سوى ثلاثة أشخاص، هم خليل مطران وأنطوان جميل ولطفي السيد.
وجدوها ملقاة على سريرها، وحيدة، في شبه غيبوبة، في آخر شقة سكنتها، والتي يقال إنها كانت في شارع الشريفين في وسط البلد، كانت نائمة وسط الكتب: صورة دوريان جراي لأوسكار وايلد، جرازيللا للشاعر الفرنسي لا مارتين، كتابها باحثة البادية، ومجلد من مجلة المقتطف. كان الناس قد تخلوا عنها، لم يمسك أحد بيدها وجسمها يبرد شيئًا فشيئًا، وروحها تتحرر أخيرًا من الحياة القاسية، وحدها الكتب، ظلت تحيطها إلى النهاية.
جميل للغاية يا أستاذة نورا
بانتظار باقي المقالات
جميل وموجع جدا يا نورا، كتاباتك تمس القلب وتؤثر في الروح، دام قلمك المبدع <3
قد اي اتهزيت والكلام لمس قلبي
رائعه ❤
بينى و بين مى رابط منذ كنت فى ثانوى و قرأت عنها ولها لاول مرة ..دائما اشعر انى فقدت صديقة و توام روح دائمااشعر الذنب مع القهر عند قراءة اى شيىء عنها بل و الذنب و كانى كنت استطيع لها شيئا و قصرت ناحيتها .. اتمنى اربت على راسها و احتضنها و اضرب كل من دخل بيتها فى يوم و لم يكلف نفسه عناء السؤال و المواساة عنها فى محنتها منذ وفاة و الدها و اثناء الاحتيال عليها و اسجنها فى العصفورية على مرأى من الجميع .زحتى جنازتها لم يحضروها ..حبيبة الأدباء لم يكلف اديب واحد نفسه بالسؤال عنها