في الحقيقة لا أدري من أين أبدأ! من الدراما أم الحقيقة؟ من المشكلة نفسها أم من المتسبب فيها؟ حسنًا.. فلنبدأ من المشكلة. خبر انتحار شاب يُدعى فرانكو ألونسو (23 عامًا) وبجواره شريط تسجيلي يصف فيه الدوافع التي أدت إلى انتحاره، مشيرًا إلى كل هؤلاء الذين أساؤوا إليه.
مسلسل “ثلاثة عشر سببًا”
أما عن سبب المشكلة فيبدو جليًا في الرسالة التي أراد أن يوجهها إلى العالم بعد انتحاره، وهي مستوحاة من قصة مسلسل “ثلاثة عشر سببًا”، والتي تحكي عن فتاة تُدعى “هانا بيكر”، انتحرت بسبب التنمر الذي كانت تتعرض له في المدرسة وعدم قدرتها على تكوين صداقات، فقامت بتسجيل ثلاثة عشر شريطًا، في كل شريط تذكر اسم شخص أساء إليها وتحكي قصته. وسلَّمت الشرائط إلى صديقها الطيب “توني” كي يمررها على هؤلاء الأشخاص واحدًا تلو الآخر، وتركت له رسالة كيف سيقوم بذلك، وحين علم بخطتها هرع مسرعًا إلى بيتها، ولكن بعد فوات الأوان.
هانا بيكر
“هانا بيكر” هي البطلة ذات سبعة عشر عامًا. التي انتحرت وأنهت حياتها في لحظة، بعد تعرُّضها لعدة مواقف مؤلمة متتالية، وانتشار الشائعات حولها بأنها فتاة ساقطة، ومحاولة التحرش بها طول الوقت ووصمها بألفاظ جنسية. هي ذاتها الفتاة البائسة المكتئبة التي تجسَّد مشهد انتحارها بشكل رومانسي للغاية ومغرٍ لدرجة أنه جذب الكثير من الشباب لتقليده تقليدًا أعمى. هذا المسلسل أدى إلى زيادة نسبة الانتحار بعد عرضه.. رغم أن غرضه الأساسي هو التوعية. ولم أر مصدرًا يشير إذا كانت شخصية “هانا بيكر” حقيقية أم لا، ولكن كل ما أعرفه أنها رواية تحولت لمسلسل درامي.
لذا فهناك محوران أساسيان، الأول هو دور الإعلام في نشر ثقافة الانتحار، والثاني يكمن في دورنا كأفراد عاديين أو حتى مختصين، مع من يظهر عليه علامات اليأس والاكتئاب.
عندما تصل إلى الشريط الحادي عشر تجدها تتحدث عن “كلاي”، الشخص الذي أحبته كثيرًا، ولكن لم تُتَح الفرصة لإخباره، ظنًا منها أنه لا يحبها، وتلومه على لحظة حميمية كانت بينهما أفسدتها هي، فتركها بناء على رغبتها (سأعود لهذه اللقطة لاحقًا)، ثم الشريط الثاني عشرلـ”برايس” الذي اغتصبها، فكان أكبر المسيئين إليها. أما الشريط الأخير فكان للأخصائي النفسي في المدرسة، والذي -من وجهة نظرها -كان من المفترض أن يثنيها عن الفكرة، لكنه لم يقم بدوره كاملاً.
كلاي
لشريط الحادي عشر الذي يخص “كلاي”، استوقفني حقيقة المشهد الذي كان بينهما مقارنة بالمشهد الذي كانت تتمنى هي أن يكون. حين أتت اللحظة التي تمنتها دائمًا بينها وبين “كلاي”، تلك اللحظة الحميمة التي استأذنها قبل أن يحصل عليها ووافقت “هانا” بحب بالغ، يبدو أنها أثناء اللقاء استجمعت كل الذكريات السيئة التي مرت بها من الشباب، والمضايقات التي تعرضت لها، فصرخت خوفًا أن يكون مثلهم، وطلبت من “كلاي” أن يبتعد عنها. حاول “كلاي” أن يفهم ما الخطأ الذي قام به، وكلما اقترب منها ليهدئ من روعها أبعدته صارخة، وطلبت منه الرحيل، فرحل. هذا ما حدث في الحقيقة، ولكن الذي حكته في الشريط أنها تمنت أن يظل بجانبها ولا يرحل، كي لا يخذلها كما خذلها الباقون.
المشهد الأخير
المشهد الأخير يثبت أن “هانا” وصلت لمرحلة من الخذلان جعلتها تدرك تمامًا أنها اتخذت القرار الصحيح، وأن زيارتها للأخصائي النفسي بالمدرسة هي مجرد تأكيد وإثبات أن الوضع لن يتغير، وأنها ما زالت وحيدة وتشعر بالعزلة ولا يشعر أحد بمعاناتها الداخلية، كل العلامات التي ظهرت عليها تم تجاهلها ولم يلتفت إليها أحد. لذلك سجلت الحوار الدائر بينها وبينه.
الباب المغلق
بعد أن تحدثت مع الأخصائي النفسي وذكرت له أنها اغتُصِبَت، طلب منها إما أن تواجه الأمر وتخبر والديها والشرطة فيفتضح أمرها، وهذا تمامًا ما كانت تخشاه، وإما أن تتخطاه، خصوصًا أن المغتصب في السنة الأخيرة وسيترك المدرسة بعد عدة أشهر. مما أثار رعبها، فقامت من فورها تاركة الجلسة وأغلقت باب المكتب خلفها، حتى مع إصرار الأخصائي وترجيه لها أن تظل وتكمل الحديث ،إلا أنها هربت مسرعة. وقفت تحملق في الباب وتتحدث في الشريط الذي تسجله مؤكدة نفس الفكرة، وهي أنه لم يخرج وراءها، الباب مغلق، لم يلحق بها أو يهتم بأمرها. حتى هو خذلها.
نفسية “هانا” الحقيقية
المشهد الذي أوضح نفسية “هانا” الحقيقية، نفسيتها التي كانت تتوق لاهتمام ليس إلا، أن يحتضنها أحدهم أو يربت على كتفها. بعد مشاهدة المسلسل كاملاً أدركتُ تمامًا سبب انتشار حالات الانتحار، فقد رسم المسلسل هالة قدسية وبرر تصرف “هانا” في كل المشاهد تقريبًا، جعل مشهد الانتحار رومانسيًا للغاية ومؤلمًا لدرجة جعلت بعض المنتحرين يضعون الرواية الحقيقية بجانبهم مفتوحة على مشهد انتحار “هانا”، منفذين إياه بنفس التفاصيل، حتى الملابس التي ارتدتها “هانا” نفسها، والتي قد بالغ كاتب الرواية في وصفها، أو تاركين خلفهم شرائط تحكي أسباب الانتحار.
نشر القصص يساعد على التوعية أم يزيدها؟
نفس الفكرة التي حدثت في الثمانينيات في فينيا، عندما عُرِض مشهد في أحد الأفلام لحالة انتحار تحت قضبان القطار، وانتشرت حالات الانتحار بنفس الطريقة بعدها، ولم يتوقف الأمر إلا بعدما توقفت وسائل الإعلام عن نشر قصص المنتحرين. فهل حقيقة نشر الإعلام لمثل تلك الحالات يساعد على التوعية بالأمر أم يزيد من تكرارها على سبيل الموضة، أو السمت العام لحالة فئة أو جيل يعاني من نفس المشكلة، ووجد أخيرًا الحل الذي جرَّبه البعض، فأغلق كل نوافذ الحلول الأخرى التي كان من الممكن أن تطرح؟
كن لطيفًا
في الحقيقة أنا لا أدري، ولكن ما أرغب بقوله أن الانتحار قد يبدو كثيرًا هو الحل الأمثل للبعض، لذا كفرد عادي لا تبخل بكلمة لطيفة أو منع إساءة أو إعطاء حضن دافئ كحضن “لمياء” صديقتي العزيزة، التي أدركت هذا الأمر من زمن، أدركت أن مثل هذه الأحضان قد تكون سببًا كافيًا لمنع شخص بائس من إنهاء حياته، لم تفرق بين كبير أو صغير، أنثى أو ذكر، احتضنت الجميع وأعطتهم سببًا للبقاء.. فشكرًا “لمياء”. إن كان هناك شيء واحد في هذا العالم تستطيع أن تفعله فهو كن لطيفًا.