سجن النسا يبدأ من أسمائهن

1236

مقولتيش هتسميه إيه؟!

سعيد عشان يكون سعيد.

 

يقولون إن لكل إنسان حظًا من اسمه، لذلك علينا أن نمنح أبناءنا أسماءً حَسَنة المعنى، كان ذلك أحد الأسباب التي جعلتني أُسَمي ابنتي “وَنَس”، لتكُن لنا ولكل من يعرفها وَنَسًا، وكذلك كي أبعد عنها -قدر استطاعتي- شبح الوحدة البائس.

 

في مسلسل “سجن النسا” أتت أسماء الشخصيات غير اعتباطية، أدركت ذلك منذ الحلقة الثالثة على الأكثر، فأحضرت ورقة وقلمًا وبدأت بعد كل حلقة أُدَوِّن بها الأسماء ومعانيها وانعكاس ذلك على أصحابها. 

وعلى سبيل المثال لا الحصر كانت تلك هي أسماء بعض بطلات العَمَل:

“غالية- حياة– دلال- زينات/شفيقة- رضا– نوارة- عزيزة- اعتدال– إنصاف– أشجان– إحسان”.

 

** غالية.. يُخيل إليّ أن أمها منحتها هذا الاسم لتمنع عنها شر بيع وشرا الدنيا فيها، لتزرع بها أنها وإن كانت فقيرة إلا أن ذلك لا يُقلل من كرامتها، كبريائها وأنوثتها. فتأتي غالية على ضعفها قوية، وعلى قوتها ضعيفة.

 

نعم تستسلم لإغراءات الحب وتصدق كذب الرجل الذي تحبه بمنتهى السذاجة، غير أنها سذاجة امرأة عاشقة لا امرأة مسلوبة الإرادة. فنجدها على قدر تضحياتها و”هَبلها” تستطيع أن تقول لا وأن تمنع عنها الأذى إذا ما أرادت.

 

على الرغم من وحدتها، فقرها، وتعلقها بشاب أصغر منها سنًا، يتعجب الجميع مما يدفعه للارتباط بها، إلا أنها تحاول أن تتعامل من منطلق أنها الـ”غالية” معظم الوقت، غير أن الحياة تستكثر عليها ذلك فتُقرر أن تسلُبها إياه. فيتضح أن هذا الذي سقطت في شباكه رجل “واطي” يعرف كيف يأخذ منها كل ما يحتاجه برضاها قبل أن يبيعها في أول فرصة، تاركًا إياها خالية الوفاض إلا من شعور بالدونية والعُري والاجتياح. كذلك تتكاتل عليها المصائب لتَقُص عنها أجنحتها قبل أن تسجنها داخل إطار لم ترغب يومًا الوجود به. فلا تملك إلا أن تتأرجح بين القوة والضعف وفق ما تقتضيه الظروف وقدر إيمانها بنفسها في تلك اللحظة.

 

وكأن الدنيا لم تكتف بذلك فنزعت عنها كل ما كانت تحلم به وتعيش لأجله، وتركتها فريسة للظلم والغدر وكسرة النِفس، وكلما تحاملت وصبرت أسقطتها فيما هو أسوأ وأصعب وأكثر إيلامًا. لتتحول الفريسة مع الوقت إلى مشروع مُنتقم، يملؤه الغضب ويعميه الظلم، فمن يلوم عليها إذا ما تحولت من حَمَل إلى ذئب؟!

 

** حياة.. تلك المرأة التي تراها للوهلة الأولى فتشعر أنها لم تعد هنا منذ زمن، رحلت روحها وبقي جسدها مُعلقًا بين الوجع والخوف. البعض يخالها تُعاني من “البارانويا/ جنون الارتياب والاضطهاد” والبعض الآخر يظنها مصابة بالـ”وسواس القهري”، غير أنها ليست سوى امرأة مصرية عادية -كان يمكن أن تكون أنا أو أنتِ- أصابتها في مقتل وساخة الوطن.

 

امرأة تتعرض بشكل شبه يومي للتحرش الجسدي واللفظي، تقرأ طوال الوقت عن حوادث الطرق والاغتصاب وخطف الأطفال وبيع الأعضاء، تُشاهد القطارات تحترق والعَبَّارات تغرق والأتوبيسات المحَمَلة بالطلبة لا تعود بهم إلى أهلهم مرة أخرى، فكيف لها ألا يُجن قلبها وعقلها وتموت كل حواسها المُحبة للحياة؟!

 

حياة.. رُبما في عالم آخر، بلدة أخرى كان سيكون لها حظًا من اسمها، لكنها هنا في بلدنا الجميلة لم يسعها سوى أن تيأس وتكتئب وتصبح مُعبئة برائحة الموت. 

 

** دلال.. الفتاة الجميلة والتي تعرف أن جمالها هو وسيلتها الوحيدة للخروج من عباءة الفقر، تُحاول قدر استطاعتها ألا تستسلم للمغريات، لكن الالتزامات التي تُحاوطها طوال الوقت تجعلها تهرب إلى أقصر الطرق فتمنح وتمنع وتتدلل لتصل إلى بعض الأحلام.

 

ترقص على السلم فيأتي دلالها ناقصًا، ومَنحها معيوبًا، تُخطئ فتندم، لكن حين لا يرحمها المجتمع ويُعَيِّن نفسه جلادًا عليها تُقرر أن تفعل كل ما بوسعها للوصول إلى القمة، حتى ولو كان ذلك على حساب شرفها، جسدها، وآدميتها. 

 

الغريب في الأمر أنها رغم كل ما وصلت إليه لكنها من داخلها تفتقد ذلك الدلال الأنثوي البسيط، المزيج ما بين الرغبة والتَمَنُّع والخجل. كما لو كانت أثناء رحلتها حين فقدت نفسها الأولى ما عادت اسمًا وصفةً دلال! فنراها تختلقه، لكنه يأتي مشوهًا عن صورته الأولى إذ تعرف هي قبل الآخرين أنها تُزيفه وتَدَّعيه، فتبدو كما لو كانت تُمارسه انتقامًا.

 

** زينات/شفيقة.. تطل علينا فتاة طوال الوقت هي جميلة، ضاحكة، وسعيدة، رغم كونها داخل جدران السجن! ثم نعلم أن تلك الفتاة هي زينات اللي بتزوق البنات. نسمعها تتحدث عن السجن ببهجة ومتعة مُرددة “هو حد يطول يبقى واكل، شارب، نايم في حِما الحكومة!”. 

 

تنتقل داخل الأرجاء بعِدة الشغل “هو فيه بنات مش عايزين زينات؟!”، تعرف هي قيمتها، تعرف كذلك أهمية الجمال للمرأة ولنفسيتها، فتجري هنا وهناك “تلقط العيش” تاركة خلفها فُتات الفرح للمسجونات.

 

وفجأة! تخرج من عالم السجن الصغير للسجن الأكبر، فنكتشف أنها لم تكن يومًا زينات بل هي شفيقة!

وكأن كل الأشياء تغيرت هي الأخرى بمجرد تغير الاسم! زينات لم تعد تبتسم، بل معالم الشقاء برزت وعششت على عظام وجهها، ذبلت، حتى حين تضحك، تضحك من الهم، فلا تلبث إلا أن تترغرغ عيناها بالدموع وتنساب من بين شفتيها الحكمة التي تجرعتها قهرًا ومُرًا من الدنيا، فلا نملك سوى أن نشفق عليها ثم نجلس ننتظر أن تعود مرة أخرى إلى السجن الأصغر لترجع لها ضحكتها.

 

** رضا.. القروية التي تُدرك أن أهلها سموها “رضا” لترضى، فلا تملك إلا أن تستسلم لعفريت الفقر والجهل في انتظار العَدَل. ثم تأتيها الفرصة للسفر والعمل بالقاهرة كخادمة، تلك المهنة التي لم تخترها، والرحيل الذي لم تسع إليه. 

 

ورغم كونها مضطرة لكنها غادرت بيتها لتتحمل عبء مصاريف تعليم إخوتها “الجدعان” بنفس راضية، لكن سرعان ما تتبدل بها الأحوال فتسرق منها أضواء المدينة براءتها وقناعتها ورضاها، وتتفتح عيناها على مصراعيهما على فتارين الأحلام لتتعلق بسقف أعلى منها، فلا تستطيع سوى أن تمد يدها لتصل إلى ما هو أبعد من متناولها، يُحركها الحرمان، السخط والغضب.

 

** نوارة.. كيف يُمكن لمثل تلك الفتاة أن تحظى بمثل هذا الاسم؟!

في البدء قد يُخطئ الظن بها ويُعتقد أنها نور فعلي لمن حولها، حيث تذهب مع أحبائها لأشد اختياراتهم ظُلمة وتكشف لهم الحقيقة لعلهم يفيقوا، تحتمي خلف اسمها وتَدَّعي الحق فتُفتح لها جميع الأبواب كما يليق بالضوء. غير أنها تفعل كل ذلك “كاموفلاج”، تستغل من يثقون بها، وحين يتركونها تعبر لسراديب أحلامهم وأسرارهم الخاصة تسرق ما يملكونه من ضي، كما لو كانت تستمد قوتها من نورهم! ثم ترحل تاركة لهم لا شيء سوى الظلام والظلم وفيض من الوَحشَة وقهرة النِفس.

 

** عزيزة.. رُبما كانت تلك هي المرأة الوحيدة بالعمل التي ظلت حتى وقت طويل تمامًا كاسمها، حيث منحتها الدنيا العِز والتقدير رغم كونها زوجة “الحاج” تاجر الحشيش، فالكل يُعاملها باحترام ويتمنى لها الرضاء لترضى حتى في السجن، كان ذلك قبل أن تظهر بوادر في الأفق توحي بخيانة من اعتبرتها ابنة لها مع زوجها، الذي لطالما ضحت بنفسها وارتضت السجن بدلًا منه كي يظل هو حُرًا بالخارج. 

 

أكتب المقال وأنا لا أعرف بالتحديد ما سيحدث لها في الحلقات القادمة، لكن ما عهدناه من الدنيا ومن صُناع العمل لا يُبشر سوى بأن الوجع آتٍ، وعلى يد من منحتهم هي مُباركتها لتفقد عزيزة عِزتها وعِزوتها وتصبح مثل باقي النساء.. خدعوها فقالوا.

…إلخ.

 

في الحقيقة سجن النسا مليء بشخصيات أخرى كثيرة جاءت تحمل بعض جينات اسمها أو لا تُشبهه على الإطلاق، لكن هل كل ما سبق يعني أن أسطورة لكل إنسان حظ من اسمه كاذبة تمامًا؟! 

 

لا يُمكننى أن أجزم، فها هو سعيد لم ينل من اسمه شيئًا كما تمنت أمه واختطفه ملاك الموت سريعًا، لكن من يعرف رُبما كان ذلك أسعد له! المشكلة أننا لا نعرف ما هو الخير لنا، إذ قد تُحتم علينا الحياة طُرقًا نسير فيها، لكن من منا يعرف أننا إذا ما اخترنا طُرقًا أخرى كان حالنا سيصبح أفضل؟!

 

لذا بين تلك الأسئلة الوجودية والمخاوف المتراكمة علينا، ألا نكتفي بمنح أطفالنا أسماءً جميلة المعنى، إن تُبد لهم لا تسوؤهم! بل أن نزرع في قلوبهم ما قصدناه منها دون أن نسجنهم داخلها، فتُعَجِّزهم إذا هم لم يشبهوها، وأن نُخبرهم أننا نحن من يمنح لأسمائنا الهالة التي تليق بنا، وأن الحياة إذا ما خاصمتنا وعاندتنا فلا يمنحها ذلك القدرة على تقييدنا داخل كلمات، طالت أو قصرت هي محض أمنيات تمناها لنا آباؤنا، ولا حق للتشكيك في دواخلنا، من وعى ذلك فقد نجا وعرف طريق الفوز.

المقالة السابقةقلب الأم
المقالة القادمةرمضان جالك؟!
ياسمين عادل
امرأة ثلاثينية متقلبة المزاج، أعشق الرقص على السطور كتابةً، أُحب الفن بمختلف أنواعه وأعيش عليه. والآن كبرت وصار عليّ أن ألعب في الحياة عشرات الأدوار طوال الوقت، لأستيقظ كل صباح أُعافر حتى أستطيع أن أُحاكي بهلوانات السيرك فأرمي الكُرات المُلونة بالهواء ثم ألتقطها كلها في آنٍ واحد.

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا