بقلم: روزالين جاد
“خلَّص طبقك كله علشان ماما تحبك”
“أنت عارف الكداب بيروح فين؟ بيروح النار”
“اللي مش بيسمع كلام ماما ربنا بيزعل منه”
ترددتْ تلك العباراتُ ومثيلاتها على آذاننا منذ صبانا. إنْ لم تسمعها من والديك؛ فبالتأكيد قد سمعتها من أهل أحد أصدقائك في وصلة توبيخ حادة أو في حلقة من حلقات الابتزاز العاطفي. وإنْ كنت من المحظوظين بعائلة مُتدينة؛ فبالتأكيد قد تُبت وبكيت إلى الله بعدد مراتٍ فاقَ ذنوبَك كطفل. وما ذنوب الطفل إلا طبق الكوسة الذي لم ينتهِ منه أو وجبة السمك التى رفض تناولها؟ أيُعقل أن يغضب الله منك لأنك لا تحب السبانخ؟ أو أن تلتهمك نيران الجحيم لأنك أخفيت درجة امتحان الرياضيات عن أمك؟
نشأنا في مجتمع يستسهل الترهيب والترغيب، ويَنفُر من الحُجَّة والمنطق؛ حتى أنه إذا فشلت تهديداته ونفدتْ حُججُه أجابك: “علشان بابا قال كده”. لتتحول مع الوقت “ربنا عايز كده”. أصبحت أفعالنا دائمًا مقرونة بالثواب والعقاب. فإنْ حثثتَ أحدهم على فعلٍ ما، سألك فورًا “هتديني كام؟”، وإن نهرته عن فعلٍ آخر، يسألك “هيحصل لي إيه يعني؟”. حتى أن كلمة “الله” أصبحت مقرونة بقلة الحيلة لا استمداد القوة، فإنْ لم يكن للفعل قيمة مادية، تكون الإجابة “لله” أملًا في أن تكون المكافأة إلهية، وإنْ لم يكن هناك عقاب مادي، يصرخ المُتضرِّر “حسبي الله ونعم الوكيل” لا على سبيل استمداد العون والقوة من الله، بل على سبيل العجز لغياب العقاب المادي.
ولكن ماذا إنْ لم يكن هناك ثواب أو عقاب؟ ماذا إنْ استيقظت غدًا، ووجدت أن كل شيء مباحٌ لك دون عواقب؟ ماذا ستفعل؟ .. أحب دائمًا أن أطرح هذا السؤال على دوائري المُقربة، فتأتيني قائمة بأفعال مُحرمة يتوق الكثيرون لممارستها، كشُرب الخمر، أو مغازلة الجنس الآخر، أو سرقة بنك. فلماذا يميل الإنسان إلى كسر القواعد مع أول فرصة تُتاح له؟ وهل حقًا ينجح الترهيب في ضبط سلوك الإنسان؟ أم ينحرف بمجرد غياب الرقابة، دينية كانت أو اجتماعية؟
تُذكرني استراتيجية الترهيب والترغيب بتدريب الحيوانات الأليفة؛ حيث إنه من المستحيل أن تشرح لكلبٍ أضرار التبول في أرجاء المنزل، ولكن بدلًا من ذلك تعتمد على الثواب والعقاب حتى يعتاد التبول في المكان المُخصص لذلك. ولكن هل يحتاج الإنسان أن يسلك باستقامة فقط للحصول على قطعة لحم إضافية؟ أو طمعًا في الحياة الأبدية؟ وهل يمتنع الإنسان عن السلوك السيء فقط خوفًا من الاحتراق في جهنم؟ وهل يسر الله الذي خلق الإنسان، وميَّزه بالعقل، ونفخ فيه من رُوحه وسلَّطَه على كل الخليقة، ممن يتبع أوامره فقط لأنه يجتنب العقاب -تمامًا كالحيوانات الأليفة-؟ أعتقد شخصيًا أنَّ وصول الإنسان إلى هذه النقطة يعني فقدانه لبوصلته الأخلاقية وإنسانيته ولحياة متسقة واعية. فالإنسان الخائف لا يعرف معنى الحرية، بل تجده يحفظ صومه حفظًا تامًا، ولكنه متى سمع مدفع الإفطار يُشعل سيجارته التى تنهش جسده يومًا بعد يوم. وتجد أمًّا تُصلي بخشوع حتى متى أنهت صلاتها، انهالت على صغارها بالسباب واللعنات. وكأن الحياة لعبة فيديو يجمع فيها الإنسان نقاط توصله إلى الجنة أو يخسر بعض الجولات فتهوي به إلى الجحيم.
أما الإنسان الحُر يعلم أن كل الأشياء مُباحة له، ولكن ليست كل الأشياء تليق أو تُناسب. ويعلم أنه لو كان الأقوى إيمانًا والأكثر علمًا ولكن بدون محبة حقيقية لأخيه الإنسان، فعبادته باطلة. الإنسان الحُر يعي أن الله لا يعنيه تنفيذ مجموعة من التعليمات المادية، بل إن غاية الله العُظمى هي الإنسان. فينهاه عن الخمر لأنه يُفقد الإنسان وعيه وأهليته؛ وينهى عن الزنا لأنه يُفقد الإنسان قدسيته ورباطه بشريكه؛ ويحثه على الصوم لأن فيه تهذيبًا للنفس وللشهوات؛ ويحثه على المحبة لأنها أعظم ما يمكن أن يُقدم الإنسان. فإن أحببت الذين يحبونك فأيُ فضلٍ لك؟ بل إن كنت حقًا تريد أن تظهر حبك لله فأحِب خليقته، قدم رحمة لأخيك الإنسان. قد يعتصر الألم ضميرك إن نسيت أن تصلي، ولكن أيؤلمك بالقدر ذاته عندما تسخر من أخيك بكلمات جارحة؟ تستغفر الله إن سمعت أن أحدهم زنى بفتاة لا تربطه بها علاقة شرعية، ولكن أتستغفر الله حين لا تغض بصرك بل تنظر إلى الفتيات وتشتهيهن في قلبك؟
هل تتذكر كل مرة كان بإمكانك أن تُميط الأذى عن الطريق ولكنك تكاسلت؟ وكل مرة بذلت المجهود الأقل مُبررًا تقاعُسك بأنك تعمل بذكاء لا باجتهاد؟ فلا تكن من المفلسين الذين يحفظون القوانين بلا رُوح، بل عُد إلى أسباب الله الأولى وغايته من وصاياه، بأن يُكرم الإنسان الذي هو روحٌ منه .. وتذكر دائمًا أن الله يريد رحمة لا طاعة بلا فهم ووصية بلا رُوح، وأن الكذب (وغيره من الذنوب) سيء لأنه فعلٌ غير أمين يحط من شأن الإنسان، لا فقط لأن “الكدَّاب بيروح النار”.
المراجعة اللغوية/ عبد المنعم أديب.