الصلاة الحقيقيَّة

429

بقلم: رفيق رائف

 

بالرغم من أنَّ أوَّل ما يتبادر إلى أذهاننا عندما نذكر كلمة “صلاة”؛ هو مكانٌ مُعيَّنٌ، أو فعلٌ مُعينٌ، أو هيئةٌ مُعينةٌ نكون عليها بينما نصلى؛ إلا أني أؤمن بأن كلمة صلاة لم تكن صدفة أن تأتي من كلمة “صلة”. وكأنَّ الهدف الحقيقي وراء مفهوم الصلاة هو تواصل أصيل وأمين. كلُّ تواصل صادق بين الإنسان وخالقه هو فعلٌ من أفعال الصلاة، كلُّ تواصل صادق وأمين بين الإنسان ونفسه هو -أيضًا- فعلٌ من أفعال الصلاة.

فبدون تواصل الإنسان مع نفسه كيف يتواصل مع الله. وأثق -أيضًا- أنَّ كل تواصل أصيل وحقيقيّ بين الإنسان وأخيه الإنسان يخلع فيه أقنعته ويحتضن عريه وعري أخيه هو فعل آخر من أفعال الصلاة. إذ كيف ندَّعي أننا تواصلنا مع أنفسنا ومع الله بصدق إنْ لم يظهر ذلك في علاقات أصيلة وعميقة، ننكشف فيها ونكون أنفسنا بدون أقنعة.

هل جرَّبت مِثلَ تلك الصلوات؟ هل جرَّبت أن تخلع أقنعة دواخلك أمام الله؟ إذ كثيرًا ما نلبس في الصلاة أقنعة الخشوع والتقوى بدون أن نجرؤ على أن نكون كما نحن، مُهتزِّين، مُتلعثِمِين، مُحبَطِين، غاضبين أو حتى مُتحمِّسين.

هل جرَّبت الصمت في محضر الله؟ فتترك له فرصةً ليهمس بداخل رُوْحِك، بل ربما أسمَعَك همسات رُوْحك أنت بداخلك بعيدًا عن ضوضاء الكلمات والتعبيرات البليغة. وربما أرشدك عمَّا تحتاجه حقًا، عمَّا تشعر به حقًا. فأحيانًا يكون أعظم معنى في الصلاة هو أن تقترب من نفسك أكثر وأكثر، وساعَتَهَا قد تجد أنَّ الإجابات التي طالما بحثت عنها هي بداخلك، وليست خارجك.

هل جرَّبت مُشاركة أحلامك مع الله، وأنْ تتركه يُحدِّثك عنها ويحلم معك بها؟ هل جرَّبت مشاركته مخاوفك العميقة، بدون أن تملي عليه كيفيَّة طمأنتها. إذ ربما يكون أعمق شفاء نختبره لمخاوفنا؛ هو في إدراكنا أنَّ هناك كيانًا أكبر منا، يُشاركنا مخاوفنا ويفهمها بدون أن يلومنا أو يحكم علينا بسببها.

هل جرَّبت احتضان زيفك أمام الله؟ فجميعنا بداخلنا المُزيَّف والحقيقيّ، بداخلنا أجزاء اختبرت آلامًا مَهُولة حتى صارت ترتدي أقنعةً في كل مكان، حتى أمام نفسها وأمام الله؛ إذ شكَّلتْ تلك الأقنعة هُوِيَّاتِنا وتعريفاتِنا عن أنفسنا. هل جرَّبت احتضان تلك الأجزاء المُزيَّفة بداخلك، بدون أن تنهرها وتُعنِّفها؟ إذ تعي جيدًا أنها لَمْ ترتدِ الأقنعة إلا بسبب خوفها ورُعبها العميق من أن تظهر على حقيقتها. ولذلك شفاؤُها الحقيقيُّ يكمُنُ في أن تدعوها إلى أحضان الله، وتكشفها أمامه لا أن تدفنها بعيدًا عنه. شفاء الأجزاء المُزيَّفة بداخلنا في استمرارنا في كشفها في ضوء من الحب والأمان، حتى يخترقها ذلك الضوء ويدفئ أعماقها المُضطربة. بالتأكيد، يعرف الله كل شيء، وأولها أننا لسنا كاملين ولا أقوياء للتمام، وأثق في أنه يتفهَّم ويُقدِّر هشاشتنا وضعفنا، وأول ما يطلبه منا هو صدقنا معه. إذ كيف تتكوَّن صلة حقيقة بدون صدقنا معه ومع أنفسنا.

ربما اعتدنا صلاة زائفة، نملأ فيها الدنيا بكلمات لا نعنيها، ونرجع من خبرة الصلاة فارغين كما دخلناها، ونتعجَّب لِمَ تكونُ خِبرةُ الصلاة ثقيلةً على قلوبنا، دون أن نجرب كيف نتواصل مع الله فعلًا، وكيف نُوسِّع تعريفنا للصلاة حتى يشمل تواصلنا الحقيقي مع كل ما حولنا، ومع كل ما بداخلنا. لا وجود لصلاة حقيقية فيها حرب مع النفس أو مع الآخر. وكُلَّما اتسعت لتحتضن نفسك أو تحتضن الآخر؛ ثِقْ في أنك تفعل فعل صلاة عميقة. اتركْ عينَيْك ترى القبيح بداخلك وبداخل الآخر دون أن تفزع منه، واثقًا أن الله لا يتفنن في القسوة عليك، بل على العكس، يريدك أن تقترب منه أكثر مما تريد أنت.  

ماذا يمكن أن تفعل حتى تختبر صلوات حقيقية؟ هل يُمكن تغيير الطريقة التي تصلي بها؟ هل يُمكنك الصمت -ولو للحظات- في محضر الله؟ هل يُمكنك التعبير عمَّا تشعر به فعلًا، لا عمَّا يجب أن تشعر به؟ هل يُمكن أن تُعبر عن صراعك بدون أن تخفيه عن نفسك وعن الله؟ هل يمكنك حتى أنْ تطلب من الله أنْ يُلهمك كيف تصلي بصدق؟ كيف تتواصل معه بشكل أعمق؟ وكيف تراه وتلمسه في الخليقة من حولك، حتى إن كانت وردةً أو عصفورًا تراه عيناك فتتلامس مع إبداعه في الخلق؟ فقط توقف قليلًا، وجرِّب أنْ تُصلي لتتواصل.

 

المراجعة اللغوية/ عبد المنعم أديب.

المقالة السابقةصومًا مقبولًا

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا