انجي ابراهيم
تم نشرة في 08/01/2017
وقت القراءة : 3 دقيقة
أتذكرها منذ المقابلة الأولى، فتاة رشيقة قصيرة القامة سمراء، تسريحة شعرها بسيطة جدًا ووجهها خالٍ تمامًا من أي مساحيق تجميل، أظافرها مقصوصة ونظيفة وخالية من الألوان، ترتدي في معصمها ساعة ويلتصق بكفها كوب نسكافيه للأبد.
كانت مقابلتنا في إطار تقدمي لوظيفة ما كانت هي مديرتها، ملابسها بسيطة جدًا وتتحرك بخفة غريبة، كانت كأنها ستطير لو وربت عينيك عنها قليلاً، كنت أرتدي ملابس عادية. اعتذرت عنها وأخبرتها أنني لم أستطع أن أرتدي بذلة رسمية للمقابلة، وأنني استأذنت من عملي للقدوم للمقابلة، فوافقت على حديثي، رغم أنها ببساطة كان يمكن أن تخبرني أنني كنت أعرف موعد المقابلة مسبقًا وكان من المفترض أن أذهب لعملي بملابس تليق بها ما دمت لن أتمكن من تغيير ملابسي قبلها مباشرة، ولكنها لم تفعل، أكملت معي المقابلة ثم قبلتني في الوظيفة.
كانت تدير مصنعًا أغلب العاملين فيه رجال، وبغض النظر عن الموظفين فقد كان أغلب تعاملها مع عمال ورؤساء ورديات، ولمن يعرف هذه الفئة يعرف أنه ليس من السهل أبدًا السيطرة عليهم، ناهيك بأنه مستحيل أن تسيطر عليهم امرأة، ومع ذلك لم يجرؤ أحدهم على رفع عينه فيها يومًا، كانت تجري في المصنع طوال اليوم، تقفز على السلالم بين مكتبها وصالة الإنتاج، تفعل كل ذلك ببنطلونها الجينز وتيشيرتاتها البسيطة وكوب النسكافيه الأبدي الملتصق بيدها.
في هذا المكان تعرفت على بعض الأصدقاء القريبين مني في السن، وكانت هي أحد أفراد المجموعة رغم أنها مديرتنا جميعًا، كانت بسيطة جدًا وحازمة، وتعرف كيف تتعامل معنا داخل العمل وكيف تخلع صفة المديرة بمجرد أن نخطو خارج المكان. بالمناسبة كانت سائقة ماهرة أيضًا. كانت تأخذنا في سيارتها لنذهب لأي مكان وكانت أفضل من رأيته يجيد الركنة.
هي كانت متعافية من الإدمان.
بالضبط.. هذه الشخصية الأسطورية التي كنت -ولا زلت- أُلقِّبها بـ”أنضف مديرة في حياتي” بعد أن تركت عملي معها، بل وغيرت مجالي تمامًا. كانت لها تجربة كبيرة مع الإدمان. الفكرة هنا أنها لم تخجل يومًا من أن تذكر ذلك لنا نحن مرؤوسيها قبل أن نكون أصدقاءها، ففي الحقيقة مهما كنا أصدقاء في النهاية هي مديرتنا وببعض الحسابات البسيطة لم يكن يجب أن نعرف عنها تفصيلة دقيقة كهذه، ولكن هذا لم يكن ينطبق عليها، هي قوية بالقدر الكافي الذي يجعلها تذكر تجربتها في كثير من الأوقات، لم تكن تذكرها بألم إطلاقًا، كانت تبتسم ابتسامة خفيفة تظهر فيها غمازات خدها وتنظر أمامها مباشرة وتشرع في الحكي.
حكت أنها فقدت كل شيء بسبب الإدمان. حكت أنها وصلت للقاع حرفيًا ولم يتبق لها مساحة أخرى للسقوط أكثر فقررت أن تنهض، حكت أنها تألمت جدًا وأنها لم يكن أمامها طريق.. حكت عن أيام لم تكن تدري فيها ماذا حدث وأين ولماذا.. حكت عن كل الإخفاقات والندم ومشاعر جلد الذات والحسرة.. حكت كل التفاصيل ولم تبك مرة واحدة وهي تحكي، تخلصت من كل الأشياء السيئة عند التعافي، ولم يبق سوى شعور النجاح الذي تستمر في الشعور به دائمًا منذ أن ولدت من جديد.
في كل عام وفي نفس اليوم تحتفل بعيد ميلادها، لا تحتفل بيوم ميلادها الحقيقي عندما أتت للدنيا رضيعة، بل تحتفل باليوم الذي تعافت فيه تمامًا وبدأت حياتها الجديدة، في كل عام تكتب كلامًا يمس القلب عن ميلادها الثاني وعن امتنانها لله الذي منحها القوة لتغتنم فرصتها التالية لتعيش، لا تخجل من حكايتها، بل تعرف أنها مصدر قوتها الحقيقية. من منا قوي لدرجة أن يعود من الموت؟! هي فعلت، هي عادت منه سالمة لتحكي كيف دخلت النفق المظلم ثم حفرت طريقها خارجة منه، أي قوة؟!
رغم قوتها تلك واستثنائيتها الشديدة لكنها لم تشعر يومًا أنها أفضل ممن لم يخرجوا من النفق بعد، بل كانت تُعقِّب على جملة “إنت أقوى من المخدرات” التي تتصدر إعلانات التليفزيون بأنها جملة مغلوطة، تقول إن المدمن عندما يسمع جملة كهذه سيسقط أكثر، هو يعرف أن المخدرات أقوى منه لأنه ما زال أسيرها، لم تمنحها تجربتها غرورًا وتكبرًا بل رسخت داخلها مشاعر حقيقية عن الألم النفسي الذي يسببه الإدمان، تتعاطف مع المدمن ولا تحتقره، تعرف مشاعره الحقيقية وتعرف أنه سقط ولا زال يسقط وأن الكلام عن أنه أقوى لا يساعده، بل يساهم في سقوطه، عندما يجد نفسه لا يستطيع التخلي عنها، هي تعرف الحقيقة من قلب التجربة، ولا تردد كلامًا أجوف يصلح للإعلانات.
هي بابتسامتها الهادئة بجسدها الرشيق بشقاوتها الواضحة بتفانيها في عملها بنجاحها المطرد في كل شيء.. مثال حي وحقيقي وموجود أن التعافي حقيقة، أن الإدمان ليس ذنبًا يحمله الإنسان طوال حياته ما أن يرتكبه، بل ممكن التوبة عنه والبدء من جديد. بعد تعافيها بدأت العمل ونجحت في عملها وترقت واستطاعت أن توجد لنفسها موقعًا مميزًا في كل مكان التحقت بالعمل فيه، هي تكبر كل يوم وتصعد درجات في حياتها المهنية والشخصية، أصدقاؤها يعشقونها ومن يعملون معها يعرفون أن الله منحهم مديرة رائعة ولو مرة واحدة في عمرهم.
هي تعرف قيمة الحياة وتعرف كيف تُقدِّر الآخرين، دائمًا ما تخبر من حولها بنقاط قوتهم، تعرف كيف تشجعهم حتى لو بكلمة بسيطة تتركها تعليقًا على شيء ما على فيسبوك، لم تتمحور أبدًا حول نفسها، بل ترى الآخرين وتعترف بنجاحاتهم وتقدر إنسانيتهم، هي لا تعيش في قوقعة، بل منذ تعافيها وهي تعيش في العالم الحقيقي دون ضغائن.
هي متعافية من الإدمان ولم تخجل قط أنها وقعت يومًا، بل تفخر دائمًا أنها استطاعت النهوض ونفضت ثيابها وانطلقت لا يعيقها شيء.