إذا كنت أحد هؤلاء الذين يتحاشون التعرض لأخبار العنف، لا سيما جرائم العنف الأسري الذي ينتمي فيه كلا الطرفين (الجاني والمجني عليه) لأسرة واحدة، والذي يجد الإدراك صعوبة في هضمه، وقد بلغت مبلغًا من الرُهاب النفسي بسبب مشاهد القتل والعنف، حتى صرت ممن يغمضون أعينهم بينما يمررون مؤشر البحث حينما يتعلق المنشور بإحدى جرائم العنف الأسري، أو كنت ممن وضعتهم الظروف ضمن دائرة العنف الأسري، المتحول إلى جريمة، فإليك ما تحتاجه لتقف على حقيقة عنف جرائم الأسرة، والذي تفيد دراسة أجريت بقسم علم الاجتماع الجنائي جامعة عين شمس، بأنه يحتل ثلث إجمالي جرائم القتل عمومًا.
تحتل جرائم العنف الأسري ثلث إجمالي جرائم القتل عمومًا حسب دراسة أجريت بقسم علم الاجتماع بجامعة عين شمس
فما هي أسبابه؟ والبيئات الصالحة لنموه؟ وما السبيل لإعادة ترميم ما أحدثه من تشويه في الأسرة والمجتمع ككل؟
كيف تُمهد البيئة لعنف جرائم الأسرة؟
التنشئة في بيئة عنيفة
وفقًا لعدد من الدراسات الاجتماعية والنفسية فإن العنف والعدوان من أكثر أنماط السلوك البشري ثباتًا وديمومة، وبالتالي إذا تعرض صغير في طفولته لصورة أو أكثر من صور العنف الأسري، سواء كان هذا العنف لفظيًا أو جسديًا أو معنويًا، وسواء وقع هذا العنف عليه مباشرة أو كان موجهًا لأحد أفراد الأسرة المحيطين، فإن هذا الصغير في حاجة للتدخل السريع والتعامل مع هذه الصور المُشوَهة للحياة الاجتماعية السوية. وما لم يحدث ذلك فهذا الصغير هو نواة جديدة للعنف تغذيها البيئة المحيطة، وربما طرحت تلك النواة مستقبلاً ما يفوق صور العنف الأولية التي أورثته إياها البيئة المحيطة.
تعرفي على: تأثير العنف الأسري على الأطفال: نفسيًا وصحيًا وعقليًا
تفضيل الإخوة بعضهم على بعض
عدم وضوح أحجام وأدوار العناصر الفاعلة في حياة هذ الصغير، وغياب توزيع الأدوار وفقًا لأسس يفرضها النسق الأخلاقي والاجتماعي القويم، كأن يتدخل الآباء في إنهاء أي خلافات بين الإخوة منحازًا لأحدهما على حساب الآخر، دون إيضاح وجهة نظره ووجهة النظر المقابلة.
غياب القيم
كذلك خفوت بريق قيم كالصدق والأمانة واحترام كبار السن والعطف على الضعفاء والعدل، بل وخلط هذه المفاهيم بأخرى لا علاقة لها بها، كضعف الشخصية مثلاً.
عدم حرية الرأي واحترام الآخر
وحينما نتحدث عن بيئة حاضنة للعنف، يجب ألا نغفل عن ذكر مساحات الحرية التي تكفلها هذه البيئة لأفرادها للتعبير عن آرائهم ومواقفهم دون إرهاب، وفي الكفة الأخرى وعلى نفس المستوى، مراعاة حق الآخرين في الاختلاف عنهم، وكذا وجود آليات وقنوات سليمة للنقاش، والتوصل لمساحة توافق محايدة دون صدام أو عنف.
تعرفي أيضًا على: كيفية علاج العنف الجسدي ضد المرأة والأطفال وأثره عليهما
أسباب جرائم العنف الأسري
تحتفظ الأسباب النفسية بنصيب الأسد، لما لها من علاقة وثيقة بالإدمان وتعاطي المخدرات وكل ما انطوى على ممارسات غير سوية، وكذلك النشأة في بيئة حاضنة للعنف، بالإضافة لتفضيل عدم المواجهة، الخوف من العقاب والبقاء رهائن لدى نظرة المجتمع.
هناك تصنيفات كثيرة لأسباب العنف الأسري الذي ينتهي بوقوع جريمة، لكني قررت أن أقوم بتحليل عدد من أخبار جرائم العنف الأسري التي وقعت خلال العام الحالي، الذي أوشك على لملمة اوراقه للرحيل، وتمكنت من اختصار الأسباب في:
أسباب اجتماعية
وهي التي تتعلق بأفكار المجتمع الذي تنشأ فيه الأسرة محل النقاش، من تفضيل للرجل على المرأة، الغني على الفقير، صاحب السلطة على من لا يتمتع بأي قسط منها، وإرجاع هذا التباين لمعايير واهية، لا تحتل المعرفة والأخلاق أي أبعاد فيها، كالتعامل مع أي مظهر من مظاهر تفوق المرأة على الرجل باعتباره تهديدًا لسيادته ونيلاً من قوامته عليها، كذلك عدم التكافؤ بين الشريكين فكريًا واجتماعيًا، والذي يمثل حجر الزاوية في غالبية جرائم العنف الأسري.
أسباب نفسية
تحتفظ الأسباب النفسية بنصيب الأسد، لما لها من علاقة وثيقة بالإدمان وتعاطي المخدرات وكل ما انطوى على ممارسات غير سوية، وكذلك النشأة في بيئة حاضنة للعنف، بالإضافة لتفضيل عدم المواجهة، الخوف من العقاب والبقاء رهائن لدى نظرة المجتمع. وقد تكون هذه الأسباب على وجه التحديد هي حلقة النهاية في غالبية جرائم العنف الأسري التي تنتهي بانتحار الجاني، لقدرتها المتناهية في مساواة الحقائق بالضلالات ولي عنق الوقائع، بحيث يصير الجاني في عين نفسه مجنيًا عليه، سواء من المجني عليهم أو من المجتمع ككل، في ظل الظروف الاجتماعية الضاغظة والوضع الاقتصادي الطاحن.
أسباب جنسية
وهذه تنقسم إلى قسمين، إما أن يكون الجاني يعاني من ضعف جنسي، وبالتالي يبدأ هذا العرض في إشعاره بشيء من النقص والدونية، بحيث يصبح الشريك شخصًا سيئ السمعة، لا تخلو الظنون بشأنه من احتمال الخيانة، وتبدأ تلك الظنون بحلقة تقود إلى تاليتها، بينما يظن الطرف الآخر أن حديث الجاني محض “أي كلام”، فلا يتورع حتى في الدفاع عن نفسه، يبدأ الجاني في رسم حلقة جديدة، حتى تكتمل دائرة الخيانة الخاوية، فتتحول الخيانة من كلمة عابرة حاكتها ظنونه، لواقع يطارده، بينما جثة الشريك مستلقية بجانبه.
أو أن يكون الشريك يعاني مما يسمى طبيا بـ “فرط النشاط الجنسي“، وتحدث الجريمة هنا، بعد عدد لا بأس به من محاولات الشريك لإشعال فتيل الرغبة الجنسية لدى الطرف الآخر، الذي لا يجد صعوبة في تصنيف ذلك الشريك كـ شَره جنسيًا، خصوصًا مع عدم تحلي الجاني بقسط من الحب والصبر واللين مع الطرف الآخر، وبالتالي، يبدأ هذا الغير قابل للاشتعال في التحول لعبء ثقيل عليه، يضاف إلى محدودية قدرته المادية، على تحمل كلفة الزواج الثاني، وتتشكل الحلقة الأخيرة بتسلل الملل لهذا النشط جنسيًا.
والذي يصير التحرش واستباحة حُرمة الآخرين سلوكًا يمارسه بشكل اعتيادي، دون أن يشعر مع ممارسته بحرج يذكر، ويصير معه الخلاص من الشريك في لحظة انتصار لرغباته الجنسية الجامحة هو الحل الأخير متحججًا بالملل، أو ربما لمروره بضائقة مالية، أو ربما حتى التشكيك في سلوك الشريكة.
أسباب اقتصادية
لا شك أن الفقر والعجز عن سد حاجات أسرتك كمعيل، ورضوخك لحل الاستدانة مع العجز عن السداد، في ظل ألسنة لا تهدأ عن مطالبتك بالمزيد من الحاجات، وعيون تتفرس عجزك عبر المرآة وتخبرك مرارًا أنها ضاقت وأنها أبدًا لن تُفرج، هي الأجواء المثالية لنمو أفكار كالقتل او الانتحار. لكن هل يقتصر القتل والانتحار فقط على الفقراء؟ بالطبع لا، فالأغنياء أيضًا يفعلون، وعادة ما تكون الأسباب الاقتصادية مغلفة لدى هؤلاء الأغنياء بغطاء اجتماعي ثقيل، “كيف سيتعامل الناس مع أمر إفلاسي؟”، وهنا يفقد الجاني حبة الأمل الأخيرة في عُقد لف به عنقه، دون أن يلقي بالاً لكونه لا يفعل شيئًا سوى أنه يخنقه.
أسباب شخصية
كعدم تحلي الجاني بقدر كافٍ من الإيمان بالله وبالقدر، بالإضافة لافتقاره في عدد كبير من الحالات لفضيلة الطموح والقدرة على التحكم بمحركات الحياة من حوله، كذلك اتصافه بواحدة أو أكثر من الصفات السلبية كسرعة الغضب، الأنانية، ضعف الشخصية، التسرع، المكابرة، وغيرها من الصفات، التي تأخذه لأسفل وقت اشتعال فتيل الغضب، ليتحول غضبه المتراكم إلى جريمة مُحققة.
اقرئي أيضًا: كابوس العنف ضد المرأة.. متى ينتهي؟!
روشتة التعافي من العنف الأسري
يقول الفليسوف الفرنسي ألبير كامو: لسنا ننشد عالمًا لا يُقتل فيه أحد، بل عالمًا لا يمكن فيه تبرير القتل
الاعتراف بالجريمة
وهذا برأيي المتواضع هو بيت القصيد، فالطريقة المثلى للتعافي من مرض ما، هي مواجهة حقيقته بلا مبررات، حتى لو كان هذا الجاني أقرب إليك من نفسك، يجب أن تضبط نظرتك لما فعله، بحيث لا تُسميه رد فعل، فكل الأشياء تحدث لسبب وبسبب، ولهذا فأول طريق للتعافي مما حدث هو الاعتراف بالجريمة وبكونها شيئًا استحق العقاب لأجله.
البحث عن الأسباب
يجب محاولة البحث فيما وراء الأسباب، فكون الجسد معتلاً، هو دليل دامغ على ضعف مناعته، ومكابرتك لتلك الحقيقة، وحدها قادرة على إفساد ما بقي منها، كذلك الجريمة التي وقعت ضمن دائرتك، هي فرصة جديدة لاستبيان ما حدث، والوقوف على حقيقة القصور الذي أدى بدوره إليها، سواء كان السبب في ذلك تربويًا أو نفسيًا أو غيره.
الرغبة في تعديل أخطاء الماضي
من الأهمية بمكان أن تخرج للمجتمع وقد اعترفت بينك وبين نفسك آلاف المرات بإخفاقك ورغبتك الصادقة في تعديل أخطاء الماضي، فالصوت العالي ليس دليل قوة، والبطش يمينًا ويسارًا ليس تعبيرًا حقيقيًا عن نفوذك، والأنانية ليست فضيلة، والمساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات ليس “كلام جرايد”.
وإذا كان هذا الجاني، الذي ينتمي لدائرتك الأسرية قد أخفق في حق نفسه وحقك، فقد فعل الشيء ذاته مع المجتمع، الذي يظل حقه في القصاص منه معلقًا ما لم يَخرج ليُعلن ندمه ورغبته الصادقة في العدول عن طريق العنف والجريمة، كي لا يسلك آخرون طريقه، مضَللين بحقيقة مصيره.
التعايش مع الألم
إذا كنت ضمن دائرة المجني عليه، فعليك أولاً أن تعتاد التعايش مع آلامك والتصالح معها، فالغضب لا ينتج إلا ثمارًا خبيثة، عليك أيضًا المضي قدمًا مع التعلم من أخطاء الأمس، فلو سئل المجني عليه عن شيء لَسُئل عن سبب وجوده ضمن موقع الجريمة، أو كما يقول جبران خليل جبران إن “القتيل ليس بريئًا من جريمة القتل”.