أن تؤمن

466

أجلس وحيدة أفكر كثيرًا، أدقق في أمور بسيطة محاولة استنباط ردات فعل كل من حولي تجاه تصرفاتي، بل ومعتقداتي أيضًا، أحاول أن أرد على كل علامة استفهام تظهر في الأفق، الغريب في الأمر أن علامات الاستفهام تتكاثر بسرعة مدهشة، حتى يتحول الأول إلى علامة استفهام عملاقة. أعلم أن مبادئي تنبع من مكان ما بداخلي، أؤمن بها بما يكفي أن أنفذ دون أي شكوك أو مؤرقات، فلماذا أخشى دائمًا ردات الأفعال إن كنت حقًا مقتنعة جدًا؟ لماذا أخشى النظرات والإيماءات باستمرار؟ ظل هذا الأمر مؤرقًا لي ردحًا من الزمن، حتى قرأت سيرة هذا العظيم “ديسموند” Desmond Doss؟

“ديسموند دوس” هو شخصية عظيمة، وبطل استطاع بعفوية أن ينشر الأمل والنور وسط زملائه الذين شاركهم الحرب. تبدأ حكاية ذلك الشخص الذي ربته أمه على تعاليم الإنجيل، وهو من فصيلة السبتيون، فآمن بها بقلبه وعقله إيمانًا شديدًا، حتى أصبح معكتف ضميري.  (Conscientious objector).

قد يبدو هذا اللفظ غريبًا عنا، لكنه في الحقيقة موجود عند كل شخص ذي ضمير حي، شخص حساس بالفطرة يحمل حب العالم في قلبه، لا يقوى على إيذاء أي كائن حي. لذا فإن “ديسموند” الذي عاصر انضمام الولايات المتحدة الأمريكة إلى الحرب العالمية الثانية ضد اليابان، قد تطوع بالخدمة العسكرية، وكان تطوعه ذلك بمثابة فراشة وسط الحرب، وكانت نيته عند التحاقة أن يعمل كمسعف طبي في الحرب.

وقبل أن يلتحق بالتدريب كان قد تعرف على فتاة وأحبها ووعدها بالزواج فور عودته، لكن فور بدء التدريب رفض “ديسموند” أن يحمل السلاح، وأنهى التدريب كاملاً دون الجزء الخاص بحمل السلاح، باعتباره ضد معتقداته، فكان محط سخرية الجميع، وأراد زملاؤه التخلص منه واعتدوا عليه بالضرب، كما عاقبه القائد الأعلى ورفض أن يعود لقريته يوم زفافه، واشتد يأسه بعد أن تعرض للمساءلة العسكرية والحبس الانفرادي. قد يكون ذلك مثيرًا للدهشة -وهو كذلك- لكن هذا ما حدث: صدر الأمر بأن يجند كمسعف في الحرب. ونقل “ديسموند” المصابين وأسعفهم وداوى جروحهم. لم يُخلِّف خلفه مصابًا إلا وأسعفه، كان مثالاً واضحًا لعدم وجود تعارض بين الشجاعة والإنسانية.

في 1945 حاولت كتيبته المكونة من 75 جنديًا، احتلال جزيرة عرفت بمرتفع المنشار، وقتال اليابانيين في ذلك الوقت كان مميتًا، إذ كانت رغبتهم في الموت أكبر من رغبتهم في الحياة، لا يبقون على حي، ويغرزون سن الرماح في الجثث انتقامًا منهم. ولهذا كان مستحيلاً على بشر أن يدخل مثل هذي الحرب عاريًا من السلاح كما فعل “ديسموند”.

لم تكن هذه الجولة سهلة، قاتل اليابانيون بشراسة، فطلب منهم قائد الكتيبة الانسحاب؛ فروا جميعًا إلا “ديسموند”، الذي ظل يسحب الجنود المصابين وينزلهم بحبل من أعلى المرتفع إلى الأسفل حيث باقي الكتيبة، وظل طوال الليل ينزلهم واحدًا تلو الآخر، طالبًا من الرب أن يساعده في إنقاذ روح واحدة أخرى، حتى استطاع أن ينقذ 75 جنديًا من بينهم 3 جنود يابانيين، لمجرد أنهم كانوا مصابين لا حول لهم ولا قوة.

ولما نزل عن الربوة بعد أن تأكد أنه أنقذ الجميع، استقبله زملاؤه بحفاوة، واعتذروا منه، بمن فيهم قائد الكتيبة. في الجولة الثانية بعد أن استعدت الكتيبة للقتال مرة أخرى، رفض الجنود أن يعتلوا التبة إلا بصحبة “ديسموند”، وطلبوا منه أن يصلي لهم؛ كانوا مؤمنين بشدة إيمانه. أصيب “دوس” في قدمه ويده أثناء القتال، وتكريمًا له فقد نال جائزة الشرف على يد الرئيس هاري ترومن. وتوفي عام 2006.

“دوس” استطاع أن يترك خلفه سيرة عظيمة، فقط لأنه آمن بالإنسانية، آمن بها بكل جوارحه وإحساسه، آمن بأن كل الفساد بدأ بقتل قابيل لهابيل، وأن العنف لا يُولِّد إلا عنفًا، وحتى في أكثر الأمور شذوذًا آمن أن النجاة في التمسك بمعتقداته. لذا فإن كان هناك درس تعلمته من هذه الشخصية العظيمة، فهو أنه ليس من حق أحد أن يحاسبني على معتقداتي أو يتهمها بأنها ليست مناسبة للزمان والمكان، وأن الإيمان لا ينبت إلا خيرًا.

فلنتمسك بفطرتنا التي خلقنا، علَّنا ننجو.

المقالة السابقةالجنس.. واقع مش توقع
المقالة القادمةأقرب طريقة لقلب جوزك الدليفري

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا