الكاتبات والوحدة 10: شهاداتهن

2081

في شهر أكتوبر الماضي، خرجت من لقاء يجمعني بصديقاتي، وفكرة واحدة تسيطر عليّ: ما هي الوحدة؟ ولماذا تشعر بها الكاتبات أكثر من غيرهن؟ لماذا كانت كل أحاديثنا في هذا اليوم تنضح بهذا الشعور، رغم أن كلاً منا تملك عائلة وأصدقاء وحياة كاملة؟ ما الرابط الوثيق بين الكاتبات والوحدة ؟

على فيسبوك صادفتني الكلمة عشرات المرات: “الوحدة – أنا وحيدة – أشعر بالوحدة – أخاف الوحدة – أرغب في بعض الوحدة)، شعرت بأنني مُطارَدة، طاقة كبيرة تتجمع في أطراف أصابعي، جذوة تتوهج في أعماقي، وأسئلة تبحث عن إجابات تتردد في عقلي، عندها وُلد هذا الملف.

في تسع مقالات ماضية حاولت البحث عن إجابة، وأزعم أنني وجدتها. واليوم أترك المجال للكاتبات للإدلاء بشهاداتهن، علَّها تحوي المزيد من الإجابات.

مها حسن (كاتبة سورية)

في بدايات صباي، كانت أمي تصفني بـ”وجهي لحالي”، أي أنني أحب الانفراد بنفسي، ولا أحب معاشرة الآخرين. لكن أستاذي في المدرسة الثانوية وصفني بأنني اجتماعية بشدة. لم أكن أعرف نفسي جيدًا، فأنا من طرف أمثل رأي أمي، في ميلي للانفراد بنفسي ونفوري من الجماعات والتجمعات، وفي ذات الوقت ينطبق عليّ وصف أستاذي لأنني محبّة للناس، وأشعر بالفرح حين أكون بينهم.

استغرق مني الأمر سنوات طويلة، حتى فهمت كيف لأحدنا أن يكون هنا وهناك، دون الخوف من أن يكون متناقضًا، وأمكنني مع الأيام فهم قانون الوحدة، بأنه ليس العزلة ولا العزوف عن العالم، ولا الشعور بالحزن والاكتئاب وعدم فهم الآخر لنا، وليس الانطواء، بل هو عالم مختلف، تكمن بذوره في رغبة أحدنا في تشكيل كوكبه الخاص، الذي يستطيع حمله أينما حل، ليحميه من هلع الجموع، والتشابه المرعب، وذعر التقليد.

الوحدة بالنسبة لي موقف فكري من العالم، ووفاء له ولذاتي التي لا تنمو وتتطور، إلا ضمن معادلة التكور صوب الذات، ثم الانبثاق صوب الآخر. أي أن نموي الدائم مرتبط بهاتين الدورتين معًا: الأنا والآخر، الوحدة والجموع، دون أن يشكّل أحدهما عبئًا على الآخر.

عزة سلطان (كاتبة مصرية)

لأبي صوت عذب، يصدح فى البيت طربًا، لا أعرف إن كانت جيناتي قد حملت هذا الصوت، فقد كنت أمتلك طبقات للصوت لا أعرف كيفية لاستخدامها، أخفقت مرات عديدة حين حاولتُ الكلام فلم يخرج صوتي، بات مُحرجًا أن أقف لأتحدث، أُجيب سؤالًا أو حتي أُلقي سلامًا فيخرج الصوت مبحوحًا خفيضًا حد الصمت.

غلَّفني الخجل والخوف من الإخفاق، فانزويت على نفسي، لم أُشارك في أنشطة عائلية، كنت صامتة أستمع، عشرات التفاصيل تلك التي تتسرب لي، حكايات نساء العائلة عن الحياة اليومية وحكايات جدتي عن عوالم خيالية.

في لحظة بدأت أكتب، كان صمتي ورغبتي العارمة فى البوح دافعي نحو الكتابة، أول بيت شعر كتبته كنت فى الصف الثاني الابتدائي، نال إعجاب أبي واستحسن خطي.. وانطلقتُ أُعبر عن نفسي كتابة. كانت الخطابات طريقتي التي ابتكرتها للتواصل مع أبي، أكتب إليه وأترك الرسائل بجانب حافظة النقود ليقرأها صباحًا قبل مُغادرته إلى عمله، أحكي عن نفسي وطلباتي.

توحدت معي، بالنهار أستمع وبالليل أقرأ وأكتب، أهرب من النهار والصخب بالنوم، متعللة بالمذاكرة مساءً، باتت الوحدة فعل حياة؛ فى الوحدة أتحقق مني، أعلق إخفاقاتي على الحوائط، أتخلص من عثرات اليوم، وأكتب، وحين خرج صوتي مبحوحًا رضيت بطبقة الصوت الباهتة تلك، لا أتحدث كثيرًا، فالأحاديث تعني أن صوتي سيختفي بعد قليل، ولذا لا نافذة لي سوى الكتابة.

كامرأة شرقية أرث الكثير من الضعف المجبرة عليه، القهر، ميراث الأسى وافر، لكنني تربيت لأب لم يعترف بتلك المهاترات، عزز ثقتي ودعمني، قوتي تضغطني ولا منفذ لخروجها سوى الكتابة، أصرخ بحروفي، أتحدث عن النساء في بلادنا. باتت الوحدة شجرةً تثمر لي امتدادًا وظلاً في الواقع، وبت لا أكتب إلا حين أكون وحيدة. الصخب يروعني، يصير ألمًا، ينغرس فى روحي، بينما صوتي المتهالك لا يكفي سوى لتبادل التحايا، وكلمات تنهي عزلة ظاهرية.

جنى الحسن (كاتبة لبنانية)

الوحدة التي أشعر بها هي وحدة البحث عن الكمال، وإدراكي التام بعدم توفّره. أعتقد أنّني سعيت -ولا زلت أسعى- للبحث عن تجارب إنسانية أعيشها لأنّها تغني الكتابة. لكنّ الكتابة تحتّم الوحدة، حيث تفصلك عن اندماجك في الحياة والانشغال بمراقبتها. أنتِ الإنسانة وأنتِ الكاتبة والالتقاء بين الكيانين يحتّم انفصالاً عن الذات، وخوفًا دائمًا من الانغماس في دور الإنسانة لمصلحة تحييد الكاتبة. هل أنا وحيدة؟ ليس دائمًا. هل أشعر بالوحدة؟ نعم. هل يمكنني أن أُسقِط أقنعتي وأشعر بالحميمية مع شخص قدر ما أشعر بالحميمية والشفافية والصدق مع الكتابة؟ أتمنى، ولكن لا أعتقد.

سمر نور (كاتبة مصرية)

الوحدة ليست خاصة بالكاتبات فقط، كتابات جيلي مثلاً، جيل أواخر التسعينيات وبداية الألفية الثانية، كُتَّاب وكاتبات، فيها فكرة الفرد الأعزل في مواجهة المجتمع والحياة، يبدو أن الحياة المعاصرة كلها مبنية على فكرة الوحدة، عنصر أصيل في تركيبة الإنسان المعاصر، الوحدة بمعناها الأشمل، وحدتك حتى بين ملايين البشر.

الاختلاف يخلق وحدة من نوع آخر، أن تكون مثقفًا أو كاتبًا، يمكن أن يخلق رغبة في العزلة وحالة من الوحدة، الكاتبات وحدتهن مزدوجة، لأنها نابعة في الأساس من حالة رفض، ومواجهة لحالة تنميط يصر عليها الواقع الثقافي، الوحدة قد تكون مُركَّبة وأحيانًا متوحشة.

لينا النابلسي (كاتبة فلسطينية)

الوحدة تتغير مع الوقت، تصبح علاقتك بها أقوى وتخرج من حيز شعور غامض بعدم الارتياح إلى جنية الحواديت الأسطورية، وصفحة بيضاء يكتب عليها خيالك ما يحلو له. كان لي صديق أشكو إليه وحدتي فيقول “الوحدة مزاج الأنبياء”، وبمرور الأعوام عرفت بأنها قبلة تصلي إليها كلما شعرت بأن العالم على اتساعه يضيق بك كفردة حذاء لا تناسبك.

أنا وحيدة بالفطرة، يأخذني الحنين للصمت الموحش كل ليلة، يغلفني الشجن حين يحاصرني ضجيج العالم فأسرع لخلوتي قبل انتصاف الليل، لا يهمني إن كان حذاء زجاجي قد سقط خلفي، لا أعبأ إن زال السحر أو بحث عني الأمير، أنا سندريللا، بطلة الحدوتة، الفتاة التي تأنس لوحدتها ولا تسعى للتخلص منها.

مروة سمير (كاتبة مصرية)

أرى نوعًا جديدًا من الوحدة يُحاصر الكاتبة المعاصرة، فأصعب ما يواجهها هو ألا تؤخذ بجدية، الحكم عليها مُسبق على أساس المنظور الضيق للأقلام النسائية، وكأن عليها إعادة اختراع العجلة لتُثبت أنها تحمل من الرؤية والفكر ما لا يحمله الكثير من الأقلام الذكورية، فيصبح الجهد مضاعفًا لأي كاتبة جادة تريد إثبات موهبتها وحقها في الاعتراف، الذي لا يحدث عادة إلا بعد نيل جائزة مثلاً، فيصبح الوسط الأدبي مُجبرًا على رؤيتها. لا يدعمها سوى ذلك الشغف المغزول بين أناملها ووريقاتها، فتحارب لتكتب، لتنقش بوجدانها إيمانًا يملؤها. الوحدة لا تنال من امرأة تكتب.

نشوى صلاح (كاتبة مصرية)

قضيت حياتي عاشقة للبشر، وربما للصخب، تلك الضوضاء التي يُحدثها وجودهم تعني لي الأنس، أؤمن بأن هناك فرقًا بين الوحدة والعزلة، الوحدة رائعة إن اخترتها، بينما هي كالمقبرة إن اختارتني. أما اليوم لم أعد أقيس الأمور هكذا، بل صرت ألوم نفسي كثيرًا على نظرتي السابقة.

اليوم صارت الوحدة مطلبًا، ولم يعد أمرها مُخيفًا، صارت تعني لحظات التأمل، السكون، الصفاء، تعني كتابًا ألتهمه، لحظات أقضيها بلا منغصات، بلا نفاق، فكم ضاع من العمر لهثًا وراء حلم الونس والرفقة! هل وجدنا الأمر يستحق؟! أظن رأيي فيها لن يتغير إلا هناك، في العالم الآخر، عندما أجد المعنى الحقيقي للرفقة، حيث مخلوقات أكثر طيبة وصدقًا ونقاءً، مخلوقات لا يغمرني القلق مما قد تُسره لي.

أميمة صبحي (كاتبة مصرية)

لا بد للكاتب أن يكون وحيدًا أثناء الكتابة. وحدته عزلة اختيارية لحين إشعار آخر. لكن هل للوحدة دور في تحفيز الإبداع؟ لأسباب كثيرة يحتاج الكاتب إلى فقاعة حين يشعر بمزاج مناسب للكتابة، ما تفتقده تمامًا الكاتبة الأم. فالأطفال قادرون على نكز كل الفقاعات بغرض اللهو دون اكتراث بما داخلها. فتبقى الكاتبة الأم التي قد تكون تعاني من الوحدة وعدم التقبل في حياتها، تحتاج إلى وحدة استثنائية لتتمكن من شحذ أدواتها الإبداعية في مزج وتداخل عبثي لا يؤدي إلا لمزيد من الفوضى.

من بين نماذج الإبداع التي تخص المرأة، تبقى الكاتبة الأم الأكثر بؤسًا وإحباطًا وانتظارًا لغد يستقل به الأطفال عنها، لتواجه وحدتها كما تواجه مصيرها.

هدى جعفر (كاتبة يمنية)

الشعور بالوحدة موهبة، مثله مثل القدرة على الكتابة، وهو أمر تولد به الكاتبة، وينمو فيها دون وعي منها، ويُصبح لديها القدرة على استدعائه عند الحاجة، بالخبرة والمِران، لكن المشكلة أنّ الشعور بالوحدة قد يكون مخادعًا أو غير حقيقي حين يرتبط بسياقات نفسية أخرى، وقد يتناقض أحيانًا مع القدرة على الكتابة. هناك ترويج لصورة المرأة الحزينة/ المرأة الكاتبة، لتحقيق صورة نمطية غير دقيقة تحرص عليها بعض الكاتبات، والكُتّاب أيضًا، للتدليل على موهبة، غير موجودة في الغالب.

يتراوح الشعور بالوحدة من الاغتراب والرغبة في اعتزال الآخرين، إلى الوحدة لاقتناص فكرة مُلهمة للكتابة، وهي وحدة آنية ومُباغتة، وهي المطلوبة ولا سواها.

نهلة كرم (كاتبة مصرية)

ظللت مختبئة أسفل فراش والدَي، أراقب من مكاني اهتزاز ضوء الشمعة القادم من بعيد، فأي اهتزاز عنيف يعني احتمالية مروره بجوارها وقدومه نحوي بعد اكتشاف مكاني، من هو؟ لا أعرف. لا أتذكر من أحلام الطفولة سوى هذا الحلم المتكرر، ربما لهذا أترك نور غرفتي مضاءً في كل مرة أبقى فيها وحدي.

ظلت الوحدة لوقت طويل تعني شيئًا مرعبًا سيلتهمني، حتى حدث أن ذهبت بقدمي للوحدة، واكتشفت أنني لا أستطيع أن أكتب حرفًا في وجود أي شخص حولي، أتذكر أنني تركت البيت وذهبت للإقامة مع جدتي لأكتب روايتي الأولى، كنت أخاف انقطاع الكهرباء في أي لحظة أو حين أتخيل شيئًا ما يعبر أمام الحمام. كانت أوقاتًا صعبة، لكنني لا أتذكرها إلا الآن وأنا أكتب.

أحيانًا أرغب في وجود الآخرين حولي، ليس هروبًا من الوحدة، لكن من أن أكون مع نفسي، وربما الآن صرت واعية أن الحلم الذي كان يتكرر في طفولتي كان يتنبأ بما سيحدث لي، أراد الحلم أن يخبرني بأنني في لحظة ما سأكون وحدي دون القريبين مني، بل أنني سأختار ذلك بنفسي، وإذا كان هناك فراش تمكنت من الاختباء أسفله في الحلم، فلن أستطيع أن أختبئ من الكتابة.

الآن فقط أعلم أن الوحدة ليست مخيفة تمامًا ولن تلتهمني، بل ستعيد إليّ اتزاني الذي افتقدته بوجودي مع الآخرين.

شيرين سامي (كاتبة مصرية)

لا أحد يُقدّر حاجة من يكتب للوحدة، لا أحد يفهم مدى الضجر الذي يشعر به حين يحيطه البشر وتتقاذف عليه الأسئلة والشكاوى والحكايات، يكاد يساق إلى الجنون إن حرمته من وحدته، ربما يُفسّر هذا غيابي عن مجالس العائلة والتجمعات الكبيرة، وغيابي عن المشاركة في مجموعات “الواتس آب” الخاصة بالمدرسة والعمل والعائلة، هذه الحقيقة قد تجاوب على مُدرب ابني عندما سألني: “لماذا لا تجالسين باقي الأمهات؟”.

الوحدة ليست كما يتخيلونها، ليست امرأة تجلس على كرسي خشبي في غرفة شبه مظلمة تجتر أحزانها وتندب حاضرها، الوحدة تشبه البراح الكبير المزدحم بأفكار شفافة، شخصيات وهمية تتحدث معًا، شوارع وبيوت وحدائق، أناس ماتوا وأناس خلقوا توًّا، حوارات حقيقية وصادقة، لا مكان لها في الواقع، أشياء غاية في الأهمية، وإن لم توجد بعد.

الوحدة لا يختارها أحد، هي من تختار من يصلح لها ويقدّرها. ربما تُفقدك التماهي مع الحياة والتعايش مع الناس، لكن من جرّبها يعرف كيف يصبح أكثر تناغمًا مع الكون، كيف يزرع طينة النفس لتطرح بالهوى، كيف يهوى الأشياء الجميلة، البسيطة، كل ما يدغدغ القلب، وكيف يهوي من الواقع للخيال، فيفقد أرضه ببطء. لكل شيء ثمن، وثمن الوحدة المسافات، والبُعد، بُعد الأشياء عن اليد والقلب.


في نهاية هذه الرحلة، أشعر بأنني أودع مرحلة هامة من حياتي، رغم كونها لم تستغرق سوى فترة زمنية قصيرة، فإنها غيرتني حتمًا، منحتني أملاً، وخبرة وأفكارًا وحياة جديدة.

أدعو جميع القارئات لمشاركتي بشهاداتهن عن الوحدة على السوشيال ميديا، تحت هاشتاج #الكاتبات_والوحدة

اقرأ أيضًا: مي زيادة: لعنة الجمال والموهبة

اقرأ أيضًا: إلينا فيرانتي: التخلص من ذنب الأمومة

اقرأ أيضًا: نوال السعداوي: العزلة ضريبة التمرد

اقرأ أيضًا: فاليري سولاناس: عندما تخذلنا الكتابة

اقرأ أيضًا: في أثر عنايات الزيات وإيمات مرسال ج1

اقرأ أيضًا: في أثر عنايات الزيات وإيمات مرسال ج2

اقرأ أيضًا: سوزان سونتاج:الهشاشة خلف جسد زجاجي

اقرأ أيضًا: أروى صالح: الوقوف على ناصية الحلم

اقرأ أيضًا: فيرجينيا وولف: النظر صوب الحياة والموت

المقالة السابقةدليل الشخصية النرجسية: من هي؟ سماتها، خطورتها وكيف يمكن التعامل معها
المقالة القادمةصحة المرأة: 10 حاجات لازم تعمليها عشان نفسك
روائية وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا