منذ أن أهدتني “مريم “مجموعتها الأولى “سر السكر” وأنا فرحة بوجودها بجواري، أؤجل قراءتها لوقت أريد أن أصاحبني فيه وأمارس لعبة الاستمتاع.
وقد جاء ذلك الوقت الذي سحبت فيه المجموعة القصصية من جواري وجلست لقراءتها، وكما توقعت كانت في غاية المتعة والرقة. المجموعة صادرة عن دار ميريت حديثًا، و”مريم حسين” مشروع روائية في وجهة نظري، وإن كنت أشك أنها ستفعل ذلك، فكما أعرفها هي مخلصة ذلك الإخلاص الطفولي وربما تعتقد أن كتابتها لرواية هو خيانة لجنس القصة القصيرة الذي تحبه.
رغم أني أعرف “مريم” منذ قرابة ستة عشر عامًا فإني قابلتها مرات تُعد على أصابع اليد الواحدة، لكنها من الشخصيات التي حين تقابلها تمنحك سر سُكرها، فهي كما مجموعتها شفافة وحقيقية. عالمها ربما تتشابك معه يوميًا، لكنك لن تلتفت لكمية التفاصيل التي تنسجها بمهارة شديدة. عالم مليء بتحدياتك الحقيقية ممتزج بواقعك اليومي بطفولتك وأحلامك بالمستقبل.
أحببت هذا العالم ووقعت في غرام “أم حبيبة” دادة المدرسة التي تعمل فيها “مريم” مدرسة للموسيقى.
“تتنحنح أم حبيبة مبتسمة ثم تبدأ الغناء.
– من حبي فيك يا جاري يا جاري من زمان.. أخبي الشوق وأداري ليعرفوا الجيران.. لما تصادف ع السلم وتكلمني ونتكلم…
أركز وأستعيد كلمات الأغنية في ذهني ثم أتوجه لمحادثتها بجدية:
– إنتي بتألفي يا أم حبيبة!
– مش مهم يا ميس، ما هو الكلام ماشي برضو.
أضحك بشدة:
– ماشي.. هجيبلك الأورج يا ستي”.
أكاد أرقص فرحًا وأنا أقرأ أن “مريم” بهذا الجمال وستمنح “أم حبيبة” فرصة الغناء على صوت الأورج.
كان قلبي يرقص وهي تحكي عن حبيبها وهو يلقبها بـ”الريحانة الرايقة”، وأبتسم وهي تسمي سور مجرى العيون “أول الدنيا”، وعندما يخذلها الحبيب أشعر بنغزة في صدري وأكاد أرى فتات السكر على رموشها ومتناثر على أصابعها وفي تجويف رقبتها، كما وصفت في قصة “سر السكر”.
رغم أن عالم “مريم حسين” يشبه إلى حد كبير عالم والدها الروائي الجميل “حسين عبد العليم”، وهو عالم المُهمَّشين الذين يصيرون أبطالاً، لكن مريم بطفولة شديدة لا تعطي البطولة في مجموعتها إلا لنفسها، لتُذكِّرني بالفتيات الصغيرات اللاتي يرتدين فساتين العيد ويدورن تلك الدورة الجميلة ليخبرننا أن الفستان “بيلف ويدور”.
“مريم” تلف وتدور حول ذاتها، في كشف ممتع ستقع حتمًا في غرامه، وهذا الكشف ينم عن وعي عميق بالذات.
ستقع في غرام الفيوم بلدتها الأصلية، وتتابع بشغف تطورات المدينة وهي تحكي من شقة صديقتها بالفيوم “دققت النظر في كنار مجوف يحيط بالسقف تختبئ بداخله لمبات ملونة كإضاءة خافتة مختلفة عن إضاءة النجفة. لاحظت هذا التصميم في أكثر من منزل حديث، وقد صمم خصوصًا لتختبئ فيه العناكب والأبراص والأتربة. الفيوم مدينتي حبيبتي أصبحت مثل هذا الكنار. آخر مرة رأيتها كما عهدتها كانت قبل عشر سنوات تقريبًا. وبعد سقوط القذافي تضاعف عدد سكانها ثلاثة أضعاف؛ الفيوم كلها كانت مسافرة ليبيا، وفي خلال عامين اختفت البيوت القديمة والعمارات الفخمة المنحوتة. تلاشى الهدوء وتحللت الحدائق وبدرت المدينة بمحلات أطعمة وملابس”.
عالم “مريم” به طفولة ستدهشك بقدرتها على الصمود أمام كل التحديات والإخلاص للمتعة والخيال، ففي قصتها الجميلة “عن العلاقة بالتوابل”، وبعد أن تقرر أن تضع بصمتها على علب التوابل في مطبخ أمها وتفرق بالكتابة بين كل برطمان والآخر، وتسهب في وصف جميل يكاد يدغدغ روحك لتوابلها المفضلة، تنتهي بها الحال جالسة على أرض المطبخ تقاوم الإحباط لتخلط الكوم الذي تساقط كله وتشابك لتصنع منه مزجًا جديدًا آملة في طعم جديد جميل.
في النهاية لن تملك إلا أن تقع في غرام المجموعة القصصية، وتعيش للحظات متوحدًا مع عالمها الجميل الدافئ الذي حتمًا سيتشابك مع عالمك، مستمتعًا ببساطة اللغة وسلاستها.
“مريم” مشروع روائية، فهي رغم موهبتها المتدفقة فإنك لن تجد نفسك أمام البناء التقليدي للقصة القصيرة، فهي مخلصة للحكي بالتداعي الحر، لذا فرأي صديقتي أن استسلامك لكتابة الرواية هو قمة الإخلاص لذاتك، التي ستجد متنفسًا جديدًا للتعبير عن عوالمها.