بقلم: سارة سكر
بأحترم الناس اللي بتلبس “فورمال” طول الوقت. شكلهم حلو، وموضب، ومليان رهبة وفخامة كده. بيعجبني “الستايل” ده في اللبس. لكن أنا بأحب ألبس “كاجوال”. بأكون مرتاحة أكثر في نفسي، وأنا لابسة لبس مريح. طبعًا بيعجبني شكل الجزمة والصندل بكعب عالي. ولوقت طويل كنت بأشتري منهم كثير. بس اكتشفت أني بأجيبهم لأنهم يعجبوني وبيليقوا عليَّ. لكن عند الجد ما بأجيش جنبهم. واللي بيحصل غالبًا أني بأضرب الشراب والكوتشي المريح، إلا يعني في مناسبات قليلة قوي.
من فترة كنت خارجة مع بابايا، ولابسة نفس نوع اللبس المريح ده. وفجأة لقيت بابا بيقول لي باستغراب كده: “ايه ده! أنتِ مش لابسة شراب؟!”.
أنا: “لأ يا بابا. لابسة شراب. ليه؟”.
بابا: “فينه؟ مش باين”.
أنا: “شراب قصير يا بابا. مش باين من الكوتشي. مستغربة يا بابا أنك ركزت في حاجة كده وعلقت عليها”.
بابا: “لأ. أصل لازم الشراب”.
أنا: “ليه لازم؟”.
ودخلنا في حوار طويل بقى عن اللازم والمفروض، وكمية اللوازم والمفروضات اللي تربينا عليها بغض النظر عن اللبس والجزمة والشراب.
انتهى كلامي مع بابا، بس كلامي مع نفسي ما انتهاش. غالبًا كلمة (لازم) دي أكثر كلمة سمعتها في حياتي من صغري .. لازم تأكلي عشان تكبري، لازم تنامي بدري، لازم تصحي بدري، لازم تذاكري، لازم تخلصي الواجب. البنت لازم تقعد كده، وتقول كده وماتقولش كده. يوم العيد لازم كذا. ولما يبقى فيه ضيوف لازم كذا وكذا. وأنت بتكلمي ربنا لازم تتكلمي بطريقة معينة، ولازم مايكونش فيه مش عارفة ايه. وفي المدرسة .. لازم أتعلم كده، ولازم أذاكر بالطريقة الفلانية، ولازم درجاتي تبقى عالية.
ومش بس وأنا صغيرة في بيتنا وفي المدرسة، لكن وأنا كبيرة أهو، لاحظت أنها بتتقال طول الوقت في كل حاجة حوليَّ، حتى الفيديوهات القصيرة الخفيفة على سوشيال ميديا .. لازم وأنتِ بتجهزي لمش عارفة ايه، تعملي ايه. ولازم بيتك يبقى فيه كذا. ولو لسه ماجبتيش كذا يبقى لازم تجيبيه. ولازم وأنت بتتعاملي في العلاقة الفلانية، تعملي الحاجة العلانية. ولازم، لازم، لازم، مالهاش نهاية! وكأن كل الدنيا اتفقت عليَّ: كُل اللي يعجب الناس، والبس اللي يعجبهم برضه، وعيش وفكر، وكون باللوازم والمفروضات اللي قالوها. واللي هي بالمناسبة مافيش اتفاق عليها أصلًا!
غالبًا، بقيت حسَّاسة شوية للكلمة دي بعد سنين في سكة الوعي والتغيير؛ كأني بأسمع أي حوار بطريقة عادية، بس الكلمة دي بالذات بأسمعها جامد، كأنها بتتقال في ميكرفون مكبر للصوت بطريقة مزعجة. وِدني بقت بتسمعها بوضوح، ومخي بيلقطها حتى لو كانت في مضمون الكلام من غير ما تتقال باللفظ.
ومؤخرًا، مابقتش بأبلعها وخلاص، تعلمت أفكر في الكلام اللي بأسمعه، وأختار أشتري منه ايه وماأقبلش ايه. وأعتقد أني بقيت أشطر في فلترة ايه اللي أتبناه، وآخذه منهج في حياتي وأتعامل بيه، وايه اللي أسقطه من حساباتي وأرميه في أقرب بأسكت كأني ماسمعتوش. وده خلَّاني أتحسن كل مرة عن اللي قبلها، وأنا بأتعامل مع الـ(لازم) اللي بأسمعها.
طيب وما دام بقيتِ أحسن الحمد لله، أومال ليه خَوْتَانا من أول المقال بكل الكلام ده؟
لأني بكل صراحة لسه بافلفص! آه بقيت أحسن كثير في التعامل مع الـ(لازم) اللي بتيجي لي من برَّا، لكن الـ(لازم) اللي جايه لي من جوَّا -من جوَّايا- لسه بأصارع معاها، ولسه مش دايمًا بأعرف أتعامل صح!
وكأني بكثر ما سمعتها من برَّايا، بقى ليها صدى كمان جوايا. ومن كثر ما أنا عارفاها كويس، وعارفة صوتها المزعج، بقيت واعية لأنها معششة جوايا! مش مجرد دبانة بايخة بتحوم حوليَّ، فأرشها ببيرسول وهاتموت وأرتاح. لأ، دي الدبانة البايخة دي بقت عايشة جوايا! بقى زنها المزعج في وداني وفي دماغي مالي أفكاري طول الوقت! لأن الإزعاج لما بييجي من برَّا بتقدر تهرب منه حتى لو محتاج مجهود. لكن لما يبقى جاي لك من جوَّا، هاتروح منه فين؟!
وده بقى الأصعب بجد، خصوصًا مع اللي زيي، اللي لسه بيحاولوا يتعافوا من أمراض المثالية المزمنة اللي عاشوا بيها فترات طويلة من حياتهم. ولما عرفوا أن فيه علاج، مش دايمًا بيقدروا ياخدوه؛ لأنه غالي ومكلف، لأنه محتاج مجهود، زي كل العلاجات المطلوبة لأي تغيير حقيقي وعميق في نفس الإنسان وفي أفكاره. مع أن المسكنات والمراهم المخدرة سهلة ورخيصة ومتاحة في كل حتة.
وهي دي الأزمة، والحل في نفس الوقت، المرض والعلاج، أنه لما الـ(لازم) والـ(مفروض) ينقحوا عليَّ من جوايا، ما أستسهلش وأجري على المسكنات اللي بتخدر الوجع. لكن ألتزم بالعلاج الحقيقي اللي بياخد وقت وسكة ومشوار، ومش دايمًا نتايجه بتبان بسرعة.
أكيد مافيش وصفة سحرية مكتوبة، أعمل كذا 3 مرات في اليوم قبل الأكل، هاتبقى فُلّ وتمام. لكن فيه سكك ومشاوير من رصد المشاعر، وتسميتها، والتعبير عنها في بيئات صحية، وفحص الأفكار اللي وراها، وتصحيحها، وقبول المظبوط منها، ورفض الغلط فيها، وتبني توجهات جديدة من الرحمة والرأفة، والصبر على روحي، وأنا بأتغير بناءً على الأفكار الجديدة اللي اخترت بوعي أني هأعيش بيها. والمغامرة بأني أتعامل بيها فعلًا من غير استعجال النتايج أو كربجة روحي لما أقع.
أيوه، محتاجين نتعلم كلام جديد نقوله لنفسنا، ونرد بيه على الـ(لازم) البايخة لما تصرخ في وشنا. محتاجة أتعلم أقول: معلش، أنا بني آدم. الضعف والمحدودية والعجز صفات طبيعية فيه. لسه بأتعلم. لسه بأتغير. مافيش نتايج حقيقية وأصيلة بتحصل بسرعة. وربنا معايا وفي صفي، وعايز يساعدني أتغير مش واقف ضدي. حتى لو عايزة ألبس اللازم والمفروض، هأختار ألبس اللي يناسبني، واللي يساعدني أمشي أكثر بنَفَس أطول؛ علشان أتغير للي محتاجة له وبأسعى أني أكونه.
مراجعة لغوية: عبد المنعم أديب