عن “حسن” و”كريم” و”محمود”.. أولاد الشارع والقلب

340

أمام الكشك المقابل للجريدة التي أعمل بها جاءني ذلك الصغير ليسألني كي أعطيه أي شيء، كانت ملابسه نظيفة للغاية، كما أنه كان يطلب بحياء شديد، عرضت عليه أن أقدم له حلوى من الكشك فوافق على الفور، انحنيت على ركبتي كي يصبح وجهي مقابلاً لوجهه، لينتابني ذلك الشعور الممضي بالأمومة فجأة، لعلها كانت المرة الأولى التي أشعر فيها بمشاعر مماثلة.

 

لم أنسَ قط ذلك العطف الذي اعتصر قلبي تجاه “حسن” الصغير، الذي لم يتخط عمره تسع سنوات، يومها ابتسم ابتسامة آسرة جعلتني أتمنى من صميم قلبي أن يرزقني الله يومًا ما بطفل كـ”حسن”، لديه هذا القدر من القبول والرقة والأدب، كانت والدة “حسن” تقف على الجهة الأخرى، تراقب ما يحدث منتظرة أن يأتيها صغيرها الخجول بما يستطيع، لم تبدُ حصيلته مني مُرضية لها للغاية، لكنها كانت مرضية له.

 

لم أكف لحظة عن تخيل ما حلَّ بـ”حسن”، وكيف لأمه أن تضعه في هذا الموقف بهذا الشكل، وكيف لم أعبر الطريق لأقف على حقيقة أمرهما، فقط اكتفيت بتلك المشاعر في قلبي، وواصلت أيامي من بعدها أطرح الكثير من الأسئلة عن الطفل النموذج الذي رأيته وتمنيت أن يكون لي مثله يومًا ما.

***

ليس “حسن” وحده الذي لا يتوقف عن زيارة عقلي باستمرار، مؤنِّبًا وشاكيًا، “كريم” أيضًا يفعل ذلك، الصغير ذو السنوات الستة، صادفني قبل عشر سنوات تقريبًا، كنت حينها ما أزال في السابعة عشر من عمري، كان تائهًا باكيًا، حاولت مساعدته بكل الطرق، تارة بمحاولة الوصول إلى أهله وتارة باللجوء إلى قسم الشرطة، كانت تجربة مأساوية، ففي القسم لم يسعفنا أحد، وعلى أبوابه نصحني الواقفون بالتخلي عنه والرحيل كي لا يعتبرني الضباط أمه التي تحاول التخلص منه.

 

جولات وصولات لساعات طويلة في الشوارع، انتهت بقُبلة طبعها “كريم” على خدي قبل أن يركض هاربًا، بعد أن أدرك عجزي عن مساعدته، ودب في قلبه الخوف أن أضعه في قسم البوليس، حيث قضى ليلة كاملة قبلها، جعلته يدرك في هذه السن الصغيرة المعنى الحقيقي لقسم البوليس، ما زالت قُبلته على خدي تُحملني مسؤولية لم يكن لي قِبل بها ولم أكن أتوقعها في هذا اليوم بالذات، مضت الأيام وظل السؤال يراودني بدوره “يا ترى حصلك إيه يا كريم؟”.

***

داخل دار الأيتام، كان الوحيد من بين أقرانه الذي يحمل تلك الطلة الخاصة جدًا، لا أتحدث عن وسامة، لكنها شيء مبهم يأسر القلب، ويدفعك للاقتراب من طفل بعينه كأنه ابنك، دون الآخرين، هكذا كان الأمر مع “محمود”، الصغير الذي توفيت أمه تاركة إياه لأب لا يعرف الرحمة، ألقى به إلى إحدى دور الرعاية هروبًا من تحمل مسؤوليته، ليجد ابن ثماني سنوات نفسه، بين ليلة وضحاها، داخل دار أيتام. حدثني كثيرًا عن رغبته في أن يصبح ضابطًا في المستقبل، كيف يحب المواد الدراسية، يرتاح للإقامة في الدار ويحب مشرفته التي شهد لها أنها تتفانى في خدمته ورعايته كأم بديلة.

 

لم يكن لديّ الكثير لأقدمه لـ”محمود” سوى دعاء صادق من قلبي أن يصير يومًا ما يريد، وأن أقابله عقب سنوات لأراه في الحُلة الرسمية ممارسًا عمله ضابطًا يعرف جيدًا كيف هي حياة الملاجئ وقسوة البشر خارج أسوارها.

***

لم تكن تلك الجولة لي في الشوارع، بحثًا عن قصص جيدة لأكتب عنها، موفقة للغاية، حتى صادفت تلك المجموعة التي تجلس بإحدى الحدائق العامة، ستة أطفال استوقفتني ضحكتهم الخارجة من القلب، اقتربت وألقيت التحية، ففوجئت بهذا الترحيب الحار، من أطفال يصفهم المجتمع بأنهم “أطفال شوارع”.

 

ملابسهم كانت رثّة للغاية ومشهدهم يبدو بائسًا، لكن تلك الضحكة على وجوههم عنت الكثير بالنسبة لي، يومها كتبت عن قصص هروبهم، كيف أن أكبرهم، “فراج عصام”، والذي يتخذ لنفسه لقب “هادي” قرر الهروب من عنف زوج أمه، الذي اعتاد على ضربه بشكل مبرح، فتوجه إلى كوبري قصر النيل حيث التقى ببقية “الشلة”.

“آية” الصغيرة التي اعتادت الهروب أيضًا بصفة دورية من منزلها في منطقة دار السلام، حيث لا أحد يهتم بغيابها أو وجودها، البيت مجرد موقع لتناول الطعام والشراب والنوم، دون تربية تُذكر.

أما “محمد” فقد ضاق بعصبية والدته التي لا تطيق أن يوجّه لها حديثًا أو يسألها عن شيء، هي أيضًا لم تكن تكترث له أو لغيابه، قصة بدت متكررة مع “يوسف” و”علي”.

 

إلى جوارهم جلست على “النجيلة” حيث شاركتهم لعب الكوتشينة، لا أنسى مشهد ذلك الرجل الخليجي الذي تصدق عليهم بـ”فانلة” من النوع باهظ الثمن، وقتها فضَّ “هادي” الغلاف سريعًا، وقاسها إلا أنه وجدها كبيرة للغاية، فكوّرها ورماها إلى منتصف الطريق بالضبط: “مش هتنفع حد فينا”، بهذه الروح كانوا يتعاملون ويلعبون ويضحكون، يأخذون من الدنيا ما يكفيهم فقط، لا يدخرون متعة أو أموالاً، يسافرون إلى الإسكندرية معًا ليلعبون على الشاطئ، ويقفزون معًا إلى نهر النيل حيث يجيد أكثرهم السباحة، ويركضون بين السيارات بمرح عارم غير مكترثين لسُباب المارة.

 

أنهيت موضوعي عنهم وحظيت بسلامات حارة حين هممت بالتحرك، هؤلاء جميعًا ما تزال وجوههم تزورني، لأجدني أتساءل حول مصيرهم وما حلّ بتلك الوجوه الرقيقة الملوثة بالغبار، كيف أصبح مستقبلهم؟! ما الذي كان يمكن أن أقدمه ولم أفعل؟! اقتربوا كثيرًا من قلبي، وتركوني من بعدهم أرثي لحالهم وعجزي عن مساعدتهم.

المقالة السابقةأريد طفلاً آخر ولكن…
المقالة القادمةامرأة كلها قلب
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا