في رواية “الوصايا” للكاتب عادل عصمت، تتعرض واحدة من نساء الدار لتجربة غريبة، كانت موشكة على الزواج، إلا أن أمها تكتشف بأن ختانها لم يكن كاملاً، تشعر بالخزي والعار، وتفكر في سمعة ابنتها، وماذا سيقول عنها عريسها ليلة الدخلة، إن علم بأن ختانها لم يكن كاملاً، وأنها في نظره ربما تصبح غير طاهرة أو شريفة.
القلق على البنت كان الدافع لفعل، يمكننا أن نقول عنه وحشيًا، ربط الجزء الباقي من البظر بخيط رفيع، حتى يتوقف الدم عن السريان فيه، ينشف ويقع وحده. توافق البنت لخوفها هي الأخرى من الفضيحة، وتتعذب أيامًا وليالي، حتى يعرف جدها بما يحدث بعدما يجدها غارقة في العرق والحمى، وينقلها إلى المستشفى في البندر.
بين جيلين من النساء
توقفت كثيرًا عند هذا الفصل، لأن البساطة التي تعامل بها الكاتب في سرد أفكار النساء، واستسلامهن لمثل هذا الفعل في زمن سابق، جعلتني أفكر بشكل أكثر شمولية في الختان بشكل عام. وسألت نفسي: لماذا تتعامل النساء من جيل الأمهات والعمات والخالات مع الأمر ببساطة؟ حتى بعد تعرضهن للأذى والألم، إلا أنهن يقصصن الحكاية بضحكات ساخرة، بلا وجع أو “تروما” نفسية. على عكس البنات من الجيل الحالي، اللاتي يسهبن في وصف الأزمة النفسية، والألم والجرح الذي لا يمكن أن يندمل.
الحقيقة أن الوضع لا يمكن تفسيره سوى بأن النساء من الجيل السابق، كن يعِشن في نعمة الجهل الجميل، هذا ما وجدن عليه العالم منذ نشأتهن. وهذا كل ما يمكنهن تصوره عن الموقف.
أما نحن، النساء من جيلي والأجيال التالية، علمنا تفاصيل ما يحدث وما سيحدث، وقرأنا الشهادات، وغصنا في عمق الحكايات. لم يعد من الممكن التعامل مع الختان على أنه عملية عادية، لأنها لم ولن تكن كذلك.
أتذكر جيدًا ذكرى لي مع خالتي، كنا نقف في الشرفة في البيت القديم، رأيتها تتطلع إلى السماء، تسرح قليلاً، ثم تخبرني بأنني أوشكت على الوصول للسن اللازمة لإجراء عملية الختان، وأنني سأحظى بالكثير من عصير المانجو والحلوى والطعام، كانت تتحدث بآلية غريبة، أثارت القشعريرة على طول عمودي الفقري رغم صغري. لم تُغرِني الحلوى ولا العصائر، طريقتها جعلتني أستشعر أن الأمر ليس عاديًا كما تصفه.
أنقذني أبي برفضه البات لمثل هذه الأمور، كان قادمًا من عائلة كلها ذكور، ولم يتعرض قط لمثل هذا الموقف، ولم يفهم له فائدة، على عكس أمي القادمة من عائلة كلها إناث، كان الختان بالنسبة لهن فعلاً روتينيًا، لا يؤذي ولا يستحق كل هذا الذعر.
تعرفي على: زوجتي مختونه ماذا أفعل ؟ علاقة الختان والبرود الجنسي
العالم يتغير لكن المشاعر لا تتغير
الآن تستعيد أمي وخالاتي الذكريات ويضحكن، تخبرني خالتي بأنها ذهبت بنفسها لاستدعاء المرأة المسؤولة عن الختان في منطقتهم، ذهبت بقدميها لجلب من ستسن سكينها بعد قليل لتجتز منها جزءًا. تضحك وهي تصف حماسها ولهفتها إلى الحلوى والعصائر، تضحك أمي مكررة نفس الذكرى، لكنهما لا تقصصان المزيد من التفاصيل، لم تعانين من مشكلات كبرى بعد ما حدث، ولا يتذكرنه حتى بوضوح.
لكني أوقن بأنهما تخفيان فقط مشاعرهما الحقيقية، ربما تتعاملان مع الأمر بطريقة أبسط بفعل الزمن، لكن نظراتهما السارحة، وطبقة الدموع التي تغطي أعينهما، وسؤالهما الساخر: لماذا كنا ساذجات إلى هذا الحد؟ وحمدهما الله على أنهما لم تفعلا المثل مع بناتهما، يجعلني واثقة بأنه لم يكن بسيطًا.
الذكرى فقط كافية للتجريم
أكوّن المشهد في خيالي، أستعيد مئات الشهادات التي قرأت عنها، وسمعتها بأذني من فتيات تعرضن لمثل هذا الأمر، ولم يستطعن التعافي أبدًا. الأمر أقرب لاستسلام على مائدة قربان، تنام الفتيات على ظهورهن، يشرعن سيقانهن للمجهول. أحاول تصور الخجل الذي تغرق فيه أجسادهن، الإحساس بأصابع تعبث بأجسادهن، أذرع تمنعهن من الحركة، غير قادرات على التنفس ولا البكاء ولا التفكير. هذا هو ما يعنيني أكثر في كامل القصة. أثر الختان بعد ذلك الذي سيحدث أو لا، لا يعنيني بقدر الموقف ذاته. المشهد ذاته، الذكرى نفسها.
كنت أعتقد أن تجريم فعل مثل الختان أمرًا واجبًا لا يمكن أن يعترض عليه أحد، أفكر بأن الجميع يملكون نفس مشاعري وتعاطفي مع فعل ينتهك حق المرأة في القرار، لكني أقرأ التعليقات على كلام المتخصصين بتجريم الختان وأندهش. النساء قبل الرجال يرفضن هذا الرأي، متعللات بأمور يمكن تفسيرها بعشرات الطرق، ويتجاهلن أمورًا أخرى على رأسها الإنسانية.
أتابع المشادات والشجارات والمناقشات، التي تدور كلها حول ضرورة الختان وأهميته من عدمها، إن كان هناك آثار للختان على النساء أو لا. ولا أجد حتى شخصًا يتحدث عن الأذى النفسي، الألم من الفعل نفسه، عن الذكرى التي لا تندثر. وعن هذا الشعور المهين بالانتهاك، الشعور الذي يجعل المرأة تترك جسدها بعد ذلك وكأنه ليس ملكها. تتخلى عنه في كل شيء، في صحته وشكله والتباهي بجمال خلقه.
لا شيء لا يمكن التعافي منه
أثق بأن النساء قادرات على التعافي من أي شيء، أثق في قدرتهن على التجاوز والتحمل والتقبل؛ الممارسات القاسية على النساء لم ولن تتوقف، لكنهن يستمررن في تحسين العالم، وتلوينه وجعله صالحًا للحياة بلا شكوى، لكني أيضًا أؤمن بشرعية المطالبة بالحقوق، والتنديد بالانتهاكات. اليوتوبيا النسائية لن تتحقق، هي مجرد حلم يراود أخيلتنا، عن عالم بلا تحرش وظلم وقهر واغتصاب وعنف وتشريد بسبب قوانين بشرية بالية لا ترحم، لكننا أيضًا لن نتراجع، سنطالب بما نستحق، سنستمر في الحديث عن الممارسات الظالمة، ونستمر في وصف مشاعرنا الحقيقية.
الختان ربما يجتز جزءًا من الجسم لا يمكن تعويضه، أما الروح، فحتى لو اجتزّ جزء منها، نحن قادرات على إعادة تجديدها بالمعافرة، والقوة وعدم الاستسلام.