بعد البداية

1177

بقلم/ سمر صادق

 

لولا بهجة البدايات لتوقف الكون عن الحركة”، قرأتها مرة بقلم عمر طاهر، ووقعت في غرام الجملة من حينها، سحر من نوعٍ ما في طيات الكلمات أسرني، توليفة حروف تقدم لك وصفة عن فلسفة الإحساس، ولأن الإحساس بأي شيء يتجمد عند ثبات الشيء، فأنت بحاجة دومًـا لبداية جديدة، لأن سعادة التجارب الأولى بإمكانها أن تنكز قلبك وتُذكرك أنك ما زلت حيًّا.. ما زال الشغف موجودًا بداخلك ولكنه بحاجة للتفعيل، ينقصه فقط بداية ما تحرِّك الساكن فيه.

 

يتغنى الجميع دومًا بسحر البدايات.. سحر أول مرة من كل شيء، أبتسم لسماع قصص المحيطين عن البدايات، تدهشني لمعة الأعين عند الحكي عن أول مرة في أي تجربة على اختلافها: عاطفية.. عملية.. اجتماعية، يدهشني الشغف في الحديث عن الاستعدادات المسبقة للمرة الأولى.. ارتباك أول مرة.. اللقاء الأول.. أول يوم عمل.. أول مرة أمومة، لكني أشعر أن لمعة الأعين تلك هي وليدة الحكي بعد فترة من التجربة، وأشعر أن ذلك الشغف هو خلاصة ما تركته التجربة في النفْس، وليس ما بدأت به الحكاية.

 

تلمع الأعين الآن بعد تجاوز البدايات المقلقة، والخطوات المضطربة، والتخبط دون هدى خبرة مسبقة ساروا على ضوئها، تلمع أعينهم الآن امتنانًا لتجاوزهم تلك الصعوبات وذلك القلق، وأكاد أجزم أني لو كنت أسمعهم وقت البدايات في خضم خوضهم التجربة لأول مرة لما وجدت الأعين تلمع شغفًا، وإنما ربما وجدتها تزوغ قلقًا وريبةً وتشكيكًا في صواب التجربة.

 

هكذا هي الحياة بكل تجاربها، تختلط فيها الأضداد دومًا، فلا تختبر تجربة قاسية إلا ولطف الله يحيطك، ولا تعايش ما هو جميل دون ألم ما يشوبه، بما في ذلك بهجة البداية في أي شيء، ستجد دومًا ما ينتقص من جمال الإحساس بالبداية من قلق أو توتر أو خوف أو تفكير مُضنٍ يدغدغ أنسجة رأسك بشأن ما أنت مقبل عليه، ولا بأس بذلك على أي حال، لأننا ببساطة بشر، خليط من كل شيء معًا في نفس الوقت، وخليط من المشاعر المختلفة على التوازي.

 

أحب المبتهجين بالبدايات ولست منهم، أو ربما مع سنوات عمري التي تعدت الثلاثين، تغير مفهومي عن بهجة البدايات، وصرت أرى السحر كله في الرحلة، لا في أول خطوة فيها. أتخيل الأمر دومًا كطفل يخطو خطواته الأولى فيتعثر ويقع، تبتهج أسرته بمحاولاته للسير، ويتناسى الجميع أنه يسقط وربما يتألم من أثر السقوط، لذا لا أحب البدايات، أحب مرحلة اتزان الطفل وهو يسير واثقًا بمفرده، ومع ذلك أؤمن عميق الإيمان بأن لا مفر من سقطات البداية وصولاً للاتزان.

 

بمنظور فتاة ثلاثينية صرت أرى البهجة، كل البهجة فيما بعد البداية، بعد تجاوز حماسة أول فترة، كل البهجة قد نعايشها في الاختبار الحقيقي للتجربة حينما يزول عنها جمال البداية، فقياسًا على مقولة “يبدأ الحب حينما ينتهي الحماس”، أرى الأمر ذاته ينطبق على حبنا لأي تجربة نعايشها، لا على صعيد التجارب العاطفية فحسب، فجوهر كل تجربة نصادفه بعد البداية، بعد أن ينتهي حماسنا، هنا فقط يبدأ الاختبار الحقيقي للتجربة، وهنا فقط قد نعايش البهجة الحقيقية إذا وجدنا أننا ما زلنا صامدين في تجاربنا، وقادرين على تخطي أصعب أوقاتها، ومتمسكين بأن نجدد اختيارنا لها رغم تقلباتها.

 

صحيح أن للبدايات بريقًا، وحماسة تثيرها في النفس، وصحيح أن البدايات تطلق أدرينالين يتدفق في كل مللي بداخلك، ليخبرك أنك لست ثابتًا في مكانك، وحقيقي ما يُقال عن أن البدايات توحي بالنهايات، لكني أميل للتصديق أكثر بأن البدايات ليست مقياسًا للتجربة، فكما أؤمن بأن الانطباعات الأولى لا تدوم لكنها لا تُنسى، أؤمن أيضًا بأن البدايات لا يشترط أن نجدها دومًا جميلة جمالاً خالصًا، وأحيانًا قد نجدها غير جميلة من الأساس، لكنها أيضًا لا تُنسى.

 

لذا طالما تمنيت لو تُعاد فقط بعض البدايات لنعيشها مرة أخرى بعدما تكون التجربة أنضجتنا، وسلبت منا قلق وخوف وتوتر المرة الأولى، لنعطي البداية حقها ونعيشها ببهجة خالصة، أو أضعف الإيمان أن نعيد تجديد مبهجات البدايات كل فترة بعدما نكون تجاوزنا قلق المرة الأولى، على طريقة “لو خلصنا كل الكلام ومبقاش فيه حاجة تتقال ممكن نعيد م الأول؟”.

 

لولا بهجة البدايات لتوقف الكون عن الحركة”، قرأتها مرة بقلم عمر طاهر، ووقعت في غرام الجملة من حينها، لكنني في كل مرة أقرؤها أتمتم في سري لأستكملها: “ولولا استقرار ما بعد البداية لزال عنا إحساسنا بالاتزان”.

المقالة السابقةفي ديسمبر تنتهي كل الأحلام.. لتبدأ أخرى
المقالة القادمةأول مرة أمومة: كيف أصبح قلبي أكبر من العالم؟

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا