إنهن حتمًا لا ينفسن هناك

469

دينا

 

24/3/2015

 

في كل مرة أتخذ طريقي إلى عملي يجب عليّ أن أصعد على تلك الأفعوانية المسماه بـ”الطريق الدائري”، بداخل التاكسي الذي يقلني أسند رأسي إلى الزجاج البارد وأتطلع إلى السماء وأراقب سباق السحب، يأيتني حظي في هيئة سائق غير ثرثار على غير العادة ودومًا تكون خلفية المشهد تلاوات قرآنية تبارك صباحي الذي أراه مثاليًا.

تتوغل السيارة بي نحو الأهرامات التي تبدو جيدة الحال من مكانها البعيد وأتخيل نفسي داخل تلك الممرات الضيقة التي يحكون عنها، فأنا لم أرها من الداخل مطلقًا، ثم أخبر نفسي أنني قد أفعلها يومًا مع ابنتي حين تكبر قليلاً وتدرك ما الذي تعنيه كلمة آثار.

 

يتحول الطريق بعد بضعة دقائق إلى المشهد الذي أجدني مجبرة كل مرة على تأمل حمرة ألوانه الباهتة.. ميكانو الطوب الأحمر كما يحلو لى تسميته.. مكعبات ومستطيلات غير متناسقة الأطوال والأحجام لمبانٍ لا تدرك معنى الألوان حتى تلك اللحظة، والتي قرر أحدهم وهو جالس إلى مكتبه أن تلك البقعة مناسبة تمامًا لوضع مكعبات متلاصقة صالحة للسكن وأقر باستخراج تصاريح البناء لمن يريد.

 

في كل مرة يقع نظري عليها لا أجدني أفكر إلا في من يعيشن داخل قوالب الطوب الأحمر المتراصة على جانبي الكوبري، أفكر في أحوال سيدات أخريات ارتضين المعيشة هنا.. فظل الحوائط مهم بالنسبة إليهن بغض النظر عن مثالية المكان.

أراهن نفسي أن هناك من تعاني بصمت وأن هناك من رضيت بصمت وأن هناك من تجاهد للخروج ولكن ألف عائق لا يسمح لها بذلك.

أراهن نفسي أن هناك امرأة تحلم لعينيها بمساحات واسعة من البراح بين كل مكعب والآخر، ولكنهم مصرين على محاصرتها بالمزيد من المباني ليضيقوا الخناق عليها أكثر من ذي قبل.. هناك حتمًا من تريد أن ترى المزيد من السماء، فتلك الرقعة الصغيرة التي تراها من نافذتها في كل مرة ترفع عينيها إلى أعلى لا تكفي.

أراهن نفسي أن هناك من تريد أن ترى أشجارًا خضراء وزهورًا يانعة وشمسًا جميلة تزور منزلها من آن لآخر متى أحبت، ولكنهم حجبوا عنها الشمس لمزيد من البناء، فما كان منها إلا أن زينت شرفتها الصغيرة بناتات خضراء مريحة اكتفت بها عوضًا عن أيقونات اللون الأحمر التي تحاوطها من كل جهة.

 

هناك حتمًا من تريد أن تستمتع بضوء العصر الهادئ مع كوب من الشاي في الشرفة بعد يوم شاق قضته في عملها أو في تأدية طلبات منزلها، تجلس براحة بدون إزعاج جار متلصص أو جارة فضولية، ولكنهم ابتلعوا مساحتها الخاصة وحكموا عليها بحارة ضيقة بينها وبين العمارة المواجهة وانتهكوا حقها في التمتع بخصوصية مجلسها البسيط وأجبروها على وضع ستائر ملونة ثقيلة تغطي شرفتها تمامًا.

 

هناك طفلة صغيرة تجلس داخل غرفتها المحدودة تحلم بما هو أكبر من درجة مادة اللغة العربية.. تحلم بما هو أبعد من حدود المكان المرسومة لها، تحلم بالأمل الذي سيضمن لها الخروج ذات يوم، فهي تدرك أن الهواء ما زال هناك لتتنفسه، تحلم بنافذة ترى من خلالها الفضاء ليلاً بدلاً من المنور الخانق المعتم الذي يجعلها وجهًا لوجه مع المزيد من الحوائط والنوافذ.. تعرف أنها فراشة وأن لديها أجنحة تريد مساحة جيدة لتفردها ولتدرك أنها ستختبر قدرتها على الطيران حينما يحين الوقت.

 

قد يكون هناك طفل يحلم بأن تذهب الكرة لمكان أبعد قليلاً وأن يستطيع الركض وراءها بسرعة أكبر مما يسمح به ضيق الشارع.. قد يكون هناك سيدة تريد فقط أن تعرض ملابسها للهواء بحرية أكبر وأن يظل بهم رائحة المسحوق المعطر بدلاً من رائحة التراب والعوادم.. قد يكون هناك زوجان يريدان أن يمارسا علاقتهما الحميمية بدون الخوف أن يسمع صوتهما أحد من الجيران أو أن يتردد الصوت في جنبات المنور الذي تطل عليه غرفتهما.

 

في كل مرة أقطع فيها هذا الطريق ذهابًا وإيابًا أفكر في الضير الذي كان سيحدث لو تم التخطيط لبناء تلك الأحياء بشيء من الإنسانية.. ما الضير في علب من الدهان كانت لتغطي واجهة وجوانب العمارات بدلاً من تركها على حالها البائسة؟ ما الضير في أن يتخذ أحدهم الجالس إلى مكتبه القرار بالكف عن وضع المزيد من القوالب والاكتفاء، فلا تستقيظ إحداهن صباحًا لتجد مكعبًا آخر يتم بناؤه بجوار مكعبها، يلاصقها وكأنهم مصرين على التحرش بها في كل مكان؟

 

في كل مرة سأسند فيها رأسى إلى زجاج النافذة البارد بداخل سيارة الأجرة وأتأمل قوالب الميكانو القبيحة ستأتينى ذات الأفكار وسأعرف أنني مقيدة عن فعل أي شيء وسأدرك أن هناك من يعيشن هناك ولكنهن حتمًا لا يتنفسن.

 

 

المقالة السابقةكيفية اختيار الحضانة المناسبة للطفل دليل لكل الأمهات
المقالة القادمةنصائح للاستعداد للولادة الطبيعية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا