صدمة ما بعد الحرب: قصص عائلات في متناول الكرب

2131

تعتبر الحروب من الصدمات التي تصيب أعدادًا كبيرة من الأفراد، في مختلف الأعمار وفي توقيت واحد. وذلك لأن الحرب تتجمع بها معظم مسببات الصدمة بشكل واضح جدًا، فهي تهديد صريح لحياة الأفراد، وحدث مفاجئ غير متوقع يسبب الشعور بالذعر وعدم الأمان، ويضاف إليه نزع الاستقرار الأسري والمجتمعي، ما يشكل خطرًا كبيرًا على الصحة النفسية والعقلية لجميع أفراد الأسرة، وخصوصًا الأطفال، وهم الفئة الأكثر عرضة للإصابة بكرب ما بعد الصدمة. فكلما كان العمر أصغر زادت شدة الصدمة وأثرها. وأحيانًا وعي الكبار بطبيعة الحدث أو حتى تلقيهم لبعض الإنذارات التي تشير إلى احتمال حدوث كارثة تخفف عليهم الأثر النفسي، أو تقلل شدة الاضطراب، لكن في النهاية الجميع معرض لخطر وتهديد حقيقي.

صدمة جماعية

كان لي تجربة في العمل ضمن فريق أحد المشروعات التابعة لمنظمة اليونيسيف، والتي كانت تعمل على الدعم النفسي للاجئيين السوريين، ورغم أنها كانت تجربة غنية فإنها كانت مليئة بالقصص الموجعة. تألمت كثيرًا لسماع قصصهم، وحاولنا كثيرًا مدهم بالدعم النفسي والمعنوي.

أسر كثيرة كان كل أفرادها قد أصيبوا باضطراب كرب ما بعد الصدمة. فالآباء منهم من كان يحاول جاهدًا لتوفير سبل الحياة الأولية لباقي أسرته، سواء السكن أو المأكل، ومنهم من كانت الحرب قد قضت على قدرته الجسدية للعمل، ومنهم من كان مفقودًا أو لم يستطع الهروب أو توفي. الأمهات كانت قصصهن أكثر قسوة، فمنهن من تحملن العبء النفسي في صمت، ومنهن من انهرن تمامًا ولم يقدرن على إدراك الواقع الجديد.

أما الأطفال فكانت أعراض الاضطراب واضحة جدًا عليهم، سواء الأعراض النفسية أو الأعراض السيكوسوماتية، (أي الأعراض الجسدية الناتجة عن اضطراب نفسي وليس لها أي سبب طبي).

اقرأ أيضًا: كرب ما بعد الصدمة في الحرب والحب والتنمر

من قصص الآباء

كذلك الأب العصبي الذي كان لا يتحدث بصوت هادئ أبدًا، ينفعل بشدة وبسهولة سواء على أحد أعضاء فريق العمل أو على زوجته وأولاده. الشعور بالتهديد يظهر بشدة على ردود أفعاله. وتعتبر سرعة الاستثارة من الأعراض الأساسية لكرب ما بعد الصدمة، ولكنه كان يمارس حيلة دفاعية كارثية، وهى الإنكار (أي إنكار الألم النفسي الناتج عن الحدث الصادم)، وتطور الإنكار لديه حتى أنه لم يكن يريد أن يرى الأثر النفسي على زوجته وأولاده. كان يرفض أي دعم نفسي أو إرشاد من أحد، وقد تكون القسوة هي أول انطباع يؤخذ عن ذلك الأب، ولكن الحقيقة عكس ذلك كليًا، فالخوف الذي تعرض له قد جعله يرتدي هذا الوجه العنيف، اعتقادًا منه أنه بذلك يحمي نفسه وعائلته. وفقدان الشعور بالاستقرار المادي وعدم قدرته على توفير مسكن آدمي جعله يزيد من إنكار ألمه وألم عائلته.

من قصص الأمهات

وللزوجات والأمهات قصص كثيرة، كتلك الأم الصامتة التي كان حضورها نادرًا وحديثها قليل، وقد عرفنا قصتها من إحدى صديقاتها. فهي فقدت زوجها وطفلتها في قصف أدى إلى سقوط منزل أسرتها، وكانت من قبل ذلك شخصية اجتماعية ومرحة تعمل في إحدى شركات الدعاية. لكنها تحولت لشخص صامت متجنب للحديث مع الغرباء، تحضر ابنتها لبعص الأنشطة الترفيهية وتجلس لتراقبها ثم ترحل دون حتى السؤال كزميلاتها عن المساعدات الأخرى التي كان يقدمها المشروع.

لم تكن ملامحها توحي بأي شيء، لا الحزن ولا الراحة ولا حتى بعض القلق. التجنب كان وسيلتها الدفاعية الوحيدة للتعامل مع الصدمة. علمنا أنها تعرضت لأكثر من أزمة قلبية بعد هروبها بطفلتها من الحرب، فكانت الأعراض أكثر من واضحة لاضطراب كرب ما بعد الصدمة، وهي الأعراض الجسمانية التي لا يوجد تفسير طبي لها، والتجنب الذي كانت تمارسه كان لتخفيف ألمها من أثر الحدث.

اقرأ أيضًا: مشاعر الذنب التي تأكل الأمهات

من قصص الأطفال

أما عن الأطفال فقصصهم مع كرب ما بعد الصدمة تحتاج المئات من المقالات والكتب، فكانت لدينا الطفلة التي كانت تصاب بحول في عينيها عند سماع أي صوت عالي، وذلك من شدة الذعر الذي تعرضت له أثناء وجودها داخل أحداث القصف. والطفل الذي تجاوز عمره تسع سنوات وكان يعاني من التبول اللا إرادي. وذلك الصغير الذي لا يكف عن الصراخ دون مبرر، ولا يهدأ إلا بعد أن تقوم والدته بمرافقته للشارع ليتأكد من أن كل شيء ما زال هادئًا، أما عن العنف فكانت تمارسه بنت في سن المراهقة، ليس فقط على زميلتها، ولكن على والدتها وإخوتها، فكانت ترى العنف هو الوسيلة الوحيدة التي تحميها من إصابتها بأي أذى.

وعلى النقيض، كان هناك ولد يترك الجميع يأخذون منه ما يريدونه، حتى طعامه، لا يرفض أي تعدٍّ ولا يواجه أي مسيئ ولو بكلمة، لا يغضب ولا يجادل كغيره من الأطفال في عمره، لا يطالب بأي شيء غير حضن أمه، يأتي ويجلس دون مشاركة، وبعد أن ننتهي من أي نشاط يسرع إلى والدته ويرفض أن يتركها.

كان المكان مليئًا بالأطفال المذعورة، وكل منهم يعبر عن خوفه بطريقته التي يحاول التأقلم بها مع ألمه النفسي، فالصدمة كانت أكبر من قدرتهم العقلية والنفسية، ولكنهم في النهاية اجتمعوا على محاولة النجاة.

اقرأ أيضًا: كرب ما بعد الصدمة عند الأطفال أعراضه وعلاجه

بس بنكمل الطريق

القصص كثيرة وليس لها حصر، تختلف في تفاصيلها، ولكن الجميع يجتمع على ألم واحد، وإذا كان هناك ما يقال عن ضحايا اضطراب كرب ما بعد الصدمة الناتج عن الحروب، فهم بشر خاضوا تجربة من أكثر التجارب وحشية في التاريخ الإنساني وهي الحرب، قد تعرضوا جميعًا لضربة قوية حطمت ما مضى من حياتهم، بل هددت بقاءهم على قيد الحياة، لم يعد أي شيء في مكانه، كل ما عرفوه تحطم أو تغير، الماضي انتهى والمستقبل لم يعد له أي ملامح، الخسائر أكبر من قدرتهم على الاستيعاب، هذا لا يعني أن فرص النجاة معدومة، فالعكس صحيح جدًا، فعلى قدر قوة الصدمة تكون نتائج النجاة مبهرة، وقد تكون فكرتنا عن الحرب أنها النهاية، لكن ماذا لو كانت البداية، وكما قالت إحدى الناجيات “اللي بيكون يكون، بس بنكمل الطريق”.

المقالة السابقة10 نصائح لمساعدة شخص يعاني كرب ما بعد الصدمة
المقالة القادمةهل تسبب مواقع التواصل الاجتماعي التروما
ريم سعيد
استشاري صحة نفسية. كاتبة في مجال الصحة النفسية والمجال الاجتماعي.

2 تعليقات

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا