الدراما تحكي حياتنا وواقعنا
فالمسلسلات والدراما تحاكي الواقع، حيث يستلهم المؤلف أو السيناريست قصته من الناس ومن حياتهم، يصنع من كلامهم وانفعالاتهم اليومية حكاية يقصها عليهم، ولذلك لم يكن من الغريب أن نندمج مع الأبطال بكل حواسنا، ونصدق أنهم منا ونحن منهم، خصوصًا لو كان الأبطال بشخصيات مركبة، فلا تقدر أن تكرههم ولا تستطيع أن تحبهم أيضًا. من ثم، لم يعد ما تقدمه الدراما شيئًا يمكننا التغافل عنه، خصوصًا إن كان يغلف بعض الشخصيات في شكل درامي يجعل تصرفاتها عادية مستساغة رغم أنها مؤذية في الواقع. وبذلك لا تزال رؤية صُناع الدراما في مصر، تعيق تغيير نظرة المجتمع لها بأنها مؤذية، خصوصًا فيما يتعلق بوضع المرأة في المجتمع. ولدينا في دراما رمضان هذا العام خير مثال، بينما نتابع الحلقات الأخيرة نرى في أغلبها التي تناقش قضايا نسائية بامتياز وضع البطلة الذي لا تُحسد عليه، فنتابعها بشغف في انتظار الفرج، لعل المرأة المعنفة تنال ولو قسطًا من العدل، ومع ذلك، لا حياة لمن تنادي.
لعبة النسيان
أحب دينا الشربيني وأحب تمثيلها وأداءها للأدوار المركبة. انفعالها هذا العام في مشهد خيانة زوجها “أمجد” لها ثم تهديد والده لها بأن تفقد طفلها الوحيد، كان ساحقًا للقلب، وللأمانة، انقلابها لتكون شريرة بلا قلب أو روح بسبب إحساس الحسرة وعدم وجود خيار الطلاق، خوفًا من حرمانها من ابنها، هو شيء في محله تمامًا، ولكن..
لم يقف المؤلف كثيرًا عند خيانة الزوج، بل إن مشهدًا دراميًا مدته لا تقل عن خمس دقائق تواجه فيها شخصية “رقية” والد الزوج وأخاه بما تذكرته من خيانة زوجها، لا يوازي ما تواجهه شخصية “رقية” يوميًا من اتهامات بالفُجر والعُهر من أهل زوجها، بما يؤثر بالسلب على صحتها النفسية، وبالتالي على تربيتها لطفلها، وفي حين طُرِح سؤال: “ما هو راجل وخانني وأنا ست وخنته يبقي إيه الفرق؟”، لم يقف أحد عند السؤال سوى خمس دقائق، ولم يأخذ الموقف حجمه بما يكفي، ثم انقلب الخط الدرامي لتعود وتكابد “رقية” نظرة المجتمع والعائلة لها بأنها “خاطية” فقط لشكهم في سلوكها، فهم ليسوا حتى متأكدين من هذا.
كجزء من مجتمع شرقي نعلم أن خيانة المرأة يُنظَر إليها ككارثة لا تغتفر، قد يفقد أحدهم حياته بسببها، لكن خيانة الرجل دائمًا ما تكون نزوة، يُبرَر لها تبريرات غير منطقية ويوُضع لها حلول تجرح مشاعر كل امرأة، مثل تغيير لون الشعر وانقاص الوزن، لكن لا أحد يخبر الرجل أن يضع عطر زوجته المفضل أو يقص شعره حسب هواها إذا خانته، ويوصمها المجتمع ولا يغفر لها، وهو ما لم يبرزه المسلسل بما يكفي أو يفرد له مساحة واضحة توضح سبب ثورة “رقية”، فقد سفَّه الخط الدرامي من وجود دافع مثل هذا لتتغير “رقية”، واعتبر الحادثة موقفًا عارضًا يمكن أن تتعرض له أي امرأة، مع التركيز الكلي على الخط الدرامي الذي يوصم “رقية”، بدون حتى محاولة انتهاز الفرصة لطرح القضية على المشاهد بصورة تجعله يدرك أن كل الأطراف مخطئة.
تعرفي على: صحة المرأة: 10 حاجات لازم تعمليها عشان نفسك
فرصة تانية
يزخر هذا المسلسل بالنماذج النسائية التي لم ينصفها الخط الدرامي للمسلسل، بل وبرر بشكل واضح الكثير من التعنيف الجسدي والنفسي لهذه النماذج النسائية، وقولبها في قوالب تبتز المشاهدين عاطفيًا، ما مرّر الكثير من التصرفات المؤذية في علاقات مسيئة، بل أضفى عليها طابعًا رومانسيًا ، ليعيدنا هذا المسلسل 100 خطوة للخلف.
ملك وزياد
في هذا المسلسل، لم تكن الخيانة سببًا كافيًا في نظر المؤلف لقيام “ملك” بانتقامها من “زياد”، الشاب الجان الوسيم الذي جرى وراءها أيامًا وشهورًا فقط لترضى أن يتقدم لخطبتها، رأته مع أخرى، فحاول أن يصحح ما فعله، لكن “ملك” لم تقبل، وحين لامها الجميع لأن الرجل لم يفعل شيئًا سوى الجلوس مع فتاة معجبة به في كافيه، سألت زياد “لو كنت أنا اللي قاعدة مع واحد وإنت شوفتني كان هيكون رد فعلك إيه؟”، لكن لم يجب المسلسل.
كانت ردود الأفعال على السوشال ميديا تنتقد محاولة “ملك” لإذاقة “زياد” من نفس الكأس، ليس لعدم واقعية الانتقام، أو لعدم الحاجة للانتقام من الأساس، لأنه من الصحي التخلي عن العلاقة، بل لأن الفتيات لم يصدقن أن شيئًا بمثل هذه التفاهة سبب كافٍ لفسخ الخطبة ومحاولة الانتقام، نظرًا لما يتعرضن له في حياتهن، ومع هذا، بدلاً من أن يتطور الخط الدرامي ليبرهن للمشاهد أن الخيانة ليست فقط خيانة الجسد بل الإحساس والمشاعر أيضًا، وبدلاً من أن ينمي في البنات إحساسهن بأنفسهن، ويعلمهن ألا يقبلن إلى الحب الذي يستحققنه، جعلهن ينظرن إلى “ملك” باعتبارها إنسانة “أوفر”.
شيرين
ينتقل الخط الدرامي لشخصية “شيرين”، صديقة “ملك” الصدوقة، ليجعلها في نظرنا فتاة مادية، لكن في الواقع أعراف الزواج ف مصر لا تختلف كثيرًا عما تفعله “شيرين”. حيث الرجل في أكثر الأحيان عن الجميلة البيضاء ذات القوام الممشوق، لكن لا أعرف لماذا ينقلب الأمر على الفتاة إذا صرحت أنها تريد شابًا وسيمًا غنيًا، فمن الأولى أن نلوم أعراف الزواج نفسها، لكن المجتمع حقيقةً لا يقبل أن تعبر المرأة عما تريده في رجلها، لا يقبل أن تعبر عن إعجابها بشكله أو مركزه الاجتماعي أو وسامته، يجب ألا يعجبها غير أخلاقه الحميدة، بينما يمكن للرجل أن يعبر كيفما يريد، وهو ما حدث في اتهام فتاة بالعهر ووصمها بقلة الأخلاق لتعبيرها عن إعجابها بآسر ياسين على فيسبوك. في حين الكثير من الرجال ينشرون صورًا للممثلات ويتغزلون فيهن بدون أن يلومهم أحد، لكن إن عبرت المرأة عما تريد تصبح مجرمة.
ولا يتناول الخط الدرامي هذا، بل يضعف موقف “شيرين” كليًا ويوصمها ويجعل المشاهد يتعاطف مع من كانت على وشك الدخول معه في مشروع ارتباط، ليلاحقها في كل مكان، ويفسد علاقاتها بالآخرين، ويلقبها بالـ”رخيصة” حينما يراها، مع أنه إنسان مؤذٍ لم يستطع أن يتقبل الرفض من علاقة ما لم تصل للجدية، وكان طرفها الآخر واضحًا تمامًا ولم يعده بشيء فيها، ومع ذلك اختار المؤلف أن يوصم “شيرين” وأن يكون للرجل كل الحق في نعت إنسانة بالرخيصة فقط لأنها لم تختره.
صافي
وحدث ولا حرج عن “صافي”، السكرتيرة الجميلة المجتهدة في عملها التي تحب من طرف واحد، فتُستَغل من الرجل الذي تحبه، ويستخدمها لإثارة غيرة زوجته، كما يتدخل في حياتها باستمرار شاب يعمل معها بالشركة، مُنصِّبًا نفسه وصيًا عليها، ليتخذ موقعه من منظور أبوي بحت، فيلاحقها ويراقبها ويتسبب في وقوع المشاكل لها بغرض حمايتها، بدون النظر إلى أنها إنسان بالغ عاقل له الحق في اتخاذ القرار المناسب دون أن يتدخل أحد في حياته، ومع هذا، يظهر تعاطف المشاهدين في محاولاته المستمية لاستمالتها، برغم أن إحدى هذه المحاولات كانت أن أخذها إلى فيلا انتحرت ماتت فيها خالته لأنها وصلت سن الـ45 ولم تتزوج، في محاولة بائسة لإفهامها أنها قد وصلت سنًا لا يمكن أن ترفض معه أي عريس وأن خطواتها القادمة الارتباط به أو الندم باقي عمرها ومن ثم الانتحار.
مريم ومدحت
ثم تأتي القشة التي قسمت ظهر البعير، شخصية “مريم” أخت “ملك” وعلاقتها بزوجها “مدحت”. مُعنِّف من الدرجة الأولى، يمارس على زوجته أبشع أنواع العنف النفسي والجسدي، ضرب مبرح وإيذاء بدني ونفسي بالقول والسب والإهانة وصولاً إلى الخيانة أمام عينيها في بيتها وعلى سريرها. يمارس “مدحت” العنف على زوجته بدعوى حبها وحمايتها، وينتقل الخط الدرامي في المسلسل ليجعلنا نتعاطف مع “مدحت” حين نعرف أن طفولته كانت مليئة بالعنف، وأنه قد تغير بعد أن قُبِض عليه في قضية إتجار بالمخدرات -والتي كان مذنبًا فيها- فيخرج من السجن -بعد أن برشوة أحدهم للاعتراف على نفسه- باحثًا عن زوجته التى يمتلئ جسدها بعلامات ضربه وتمتلئ روحها بالمرارة والكره بسبب إهاناته، مرسلاً لها الورود معتذرًا راغبًا في عودة المياه لمجاريها، وكأن شيئًا لم يكن.
يبرر الخط الدرامي للمُعنِّف عنفه وإيذاءه في علاقة مسيئة استهلك فيها الأخضر واليابس في روح إحداهن، وأن من العادي أن تسامح الزوجة زوجها بعد أن أهانها وضربها وتقف بجانبه في الشدة وإلا تكون “مش بنت أصول” كما قال والد “مدحت” لـ”مريم”، ويقولب تصرفات “مدحت” في قوالب مجتمعية تقبل الضرب والعنف الزوجي والأسري باعتبارها “ساعة شيطان”، فبعد أن عشمنا بطرح قضية شائكة كالعنف الزوجي، لا ينصف المؤلف الضحية المرأة، ويريدها أن تتصالح مع معنفها.
سيدي المؤلف.. المُعنف لا يتغير، والمرأة ليست مجبرة على التصالح مع المعنف أو الوقوف بجانبه في أزماته، فهي ليست أمه لتحبه مهما فعل، هي شريكة حياته التي يجب أن تحظى بالاحترام والتقدير، ومبدأ “الصلح خير” ليس له محل من الإعراب هنا.
ونحب تاني ليه؟!
كنت أشاهد هذا المسلسل لرؤية الصراع بين شخصية “غالية” وطليقها “عبد الله”، وتحمست لأن أخيرًا أحدهم يتناول نظرة المجتمع للمطلقة وتصرفات طليقها معها بعد الانفصال، خصوصًا بعد أن أدمى قلبي مشهد في مسلسل “البرنس” يتم فيه معايرة الشخصية التى تلعب دورها الفنانة نور بأنها مطلقة، لكن ربما هذا مُبرر لأنه من صلب المجتمع كما أن الخط الدرامي الرئيسي كان صراع الأخوة، فلا حاجة لحشر القضايا النسائية بما لا يخدم الدراما.
توقعت أن يشعل الخط الدرامي المواجهة بين “غالية” وطليقها، خصوصًا أن ياسمين عبد العزيز تلعب دور المرأة القوية التي لم تنكسر، بل أصرت على الخروج للعالم الأرحب خارج علاقتها لتبدأ من جديد، فتعمل وتهتم بطفلتها وأمها وجدتها، وتحب وترتبط وتتزوج، وتقف في وجه المجتمع لتقول إن الطلاق ليس وصمة عار، وليس من حق طليقي أن يتدخل في حياتي، وليس من حقه أن يرتبط ويلهو كيفما يشاء بينما يمنعني من الحلال.
ثم قرر المؤلف أن هذا الطليق الحشري الذي يبرر تدخله في حياة زوجته السابقة بأنه “راجل”، يفقد الذاكرة، ليعود عامًا للوراء حيث كان لا يزال مرتبطًا بـ”غالية”، وليقول الجميع لـ”غالية” بأن تقف مع طليقها فلا تخبره أنها طليقته، وتتحمل مناداته لها بحبيبتي وتتحمل مطالبته لها بحقوقه الزوجية وبرغبته في احتضانها، وإلا فهي ليست “بنت أصول” ولا تستحق التعاطف من المشاهد.
أدوار أمينة رزق: المرأة الأمثل في الدراما المصرية
للأسف تنحصر رؤية الكثير من المؤلفين والسينارست للمرأة في الدراما المصرية باعتبارها المرأة الـ”أمينة رزق”، الأم التى يجب أن تضحي بكل ما تملك في سبيل سعادة الأبناء، لكنها لا تسعى ابدًا لنفسها، لسعادتها، لنجاحها، وإن قامت بهذا فمن الضروري أن يُعكر صفو رحلتها عراقيل، ليس من شأنها أن توضح لنا ما تكابده المرأة في مجتمعنا الشرقي، بل من شأنها أن تثنيها عن هذه الرحلة من بدايتها، وأن ترجعها إلى عقلها لتفهم أن الأساس في النهاية هو البيت والزوج والأطفال، بدونهم هي ناقصة، ولذا يجب أن تتحمل كل شيء في سبيلهم، خيانة، تعنيف نفسي أو جسدي، وصم مجتمعي للمطلقة أو التى لم تتزوج بعد، وغيرها من الأشياء التى تُقولب في قوالب جاهزة استساغها المجتمع منذ مدة طويلة.
وبينما يصر المؤلفون أن تنال أي واحدة أخطأت جزاءها مرة واثنين وثلاثة، في الوقت ذاته لا نرى أي جزاء يحدث للمُعنِف أو حتى توعد له بسوء المنقلب، بل ويمكن أن يُوضع في مواقف تجعل المتلقي يشعر بالأسى تجاهه، ليبرر له العنف والأذى.
اقرأ أيضًا: بطلات مسلسلات رمضان 2020: كلهن يفتقدن الحب