في يوم 28 مارس عام 1942، غادرت فيرجينيا وولف منزلها بعد أن تركت رسالة إلى زوجها وأخرى إلى شقيقتها، كان خطها مرتبكًا وكلماتها تبدو مبعثرة، حاولت في رسالتها أن تبرر رغبتها في الموت، لم تعد قادرة على تحمل الأصوات في رأسها، لا ترغب في المرور مرة أخرى بتجربة العلاج النفسي، تشعر وكأنها حمل ثقيل على من حولها. كانت في الحقيقة ترغب برسائلها في محو الذنب عن أحبائها.
ارتدت فيرجينيا معطفها، وتوجهت إلى نهر أوس. بدا الطريق مثل كل يوم، تعرف كل موضع حجر فيه، نفس رائحة الهواء، نفس لون السماء. ملأت جيوبها بالحجارة، وسارت إلى أن توقفت عن الشعور بالأرض أسفل قدميها، بدأ الماء البارد في محو الأصوات داخل رأسها، غلفها كشرنقة ناعمة، شعرت أخيرًا بالسلام.
في يوم 6 نوفمبرمن عام 2019، استيقظَت “شهد أحمد كمال” وصمت ثقيل يضغط على أذنيها، صمت له طنين مثل تردد يحدث اهتزازًا في خفقات قلبها، شعرت وكأن قلبها انتقل إلى أسفل حلقها، وقفت أمام المرآة وضغطت على النقطة الصغيرة التي يختبئ قلبها خلفها، ضغطت حتى انطبع أثر إصبعها على جلدها بلون أحمر باهت.
مثل كل يوم قررت أن تموت، لكن هذا الصباح كان مختلفًا. لم تتمكن من تجاهل الفكرة، استيقظت ورأتها متجسدة أمامها، حاولت التظاهر بالنوم لكنها لم تختفِ، استسلمت لها، بدَّلت ملابسها وحملت حقيبتها وخرجت، بدت الشوارع مثل كل يوم، رائحة الهواء، لون السماء، النباتات الذابلة على جانبي الرصيف، المحال تفتح أبوابها بهدير خافت، والناس، نفس الناس، وجوه بلا ملامح، وكأنها كتل عجين متشقق تعلو الأجساد.
توجهت إلى موقف المحافظات وانتظرت عربة القاهرة، كانت خطواتها مرتبكة، ظهرها محني قليلاً إلى الأمام، ثمّة حمل ثقيل عليه، عندما وصلت، شعرت وكأن شبحًا خفيًا يدفعها إلى النيل، سارت في الشارع الطويل إلى أن وصلت إليه، بدا وكأنه ينتظرها، أو كأنها أخيرًا قد وصلت إلى منتهاها.
مشت إلى أن توقفت عن الشعور بالأرض تحت قدميها. الماء بارد، يمحو الأصوات الحادة داخلها، يخفي الفكرة من أمام عينيها، كانت الرؤية تبهت، والضباب يغلف رأسها، شعرت أخيرًا بالسلام.
الموت هو ما يمنح القيمة للحياة
كانت شهد طالبة في كلية الصيدلة، أما فيرجينيا فهي واحدة من أهم الكاتبات في تاريخ الأدب الحديث، التفاوت في العمر والزمن وطريقة الحياة والاهتمامات لم يمنع أن تعاني الاثنتان من نفس المرض، مرض الاضطراب الوجداني ثنائي القطب، ومن الأصوات التي تحتل رأسيهما، وتدفعهما إلى الرغبة في الموت.
وصفت فيرجينيا وولف الأصوات وكأنها هسهسة أجنحة داخل رأسها، شعرت وكأنها تدخل برأسها إلى شارع مسدود، تستمر في الجري والاصطدام بنهايته دون جدوى، تعيش حياة لا ترغب فيها، تشعر بالألم مثل سن سكين يمر على كل سنتيمتر من جسمها، شرخ يزداد حجمه في قلبها كل يوم، يُحدِث صوتًا مثل أزيز خافت داخل صدرها، كان لا بد أن تموت لتعطي لحياتها قيمة أكبر.
قصة فيرجينيا وولف معروفة، ألهمت العديد من المبدعين بكتب وروايات وأفلام ودراسات، عاشت حياة مضطربة، تعرضت فيها لتحرش جنسي من أخيها غير الشقيق، الأمر الذي تركها فارغة، كتلة مصمتة تخفي مشاعرها أسفل غلاف بارد وهادئ. عانت فيرجينيا من سلسلة فقد لأمها ثم شقيقتها الكبرى ستيلا ثم والدها، الذي أصيبت بعد وفاته عام 1904 بانهيار عصبي، وأخيرًا وفاة شقيقها طوبي، لتصبح حياتها بعد ذلك سلسلة من الانهيارات والنوبات والإغماءات ومحاولات الانتحار.
الكتابة منحت فيرجينيا عمرًا إضافيًا
انتحرت شهد في العشرين من عمرها، أما فيرجينيا فانتظرت لعامها الـ59، ربما يكون زواجها من ليونارد وولف قد عطَّل قليلاً إنهاءها لحياتها، لأنه من شجعها على الاستمرار في الكتابة، المنفذ الوحيد الذي يُمكِّنها من إخراج الأصوات في رأسها، وترجمتها إلى مشاعر وشخصيات، في كل رواية أو قصة كتبتها فيرجينيا يمكننا أن نجد طيفًا منها، أفكارها الشخصية حول الحياة والموت، حول المتناقضات بشكل عام، هذه المتناقضات التي شكلت حياتها، البرد والدفء، الحرب والسلام، الماء والنار، الزمن والجمود، لكنها تركتها في نفس الوقت في حالة تشبه التشظِّي، متفتتة غارقة في عالم داخلي مشتعل داخل غلافها البارد. كانت الكتابة منفذها إلى الحياة، وكانت في نفس الوقت، دافعها إلى الموت.
على الرغم من عزلتها فهمت فيرجينيا وولف الحياة جيدًا، كانت تملك هذا النوع من الاستبصار الذي يجعلها ترى حياة المرء كاملة بمجرد النظر إلى وجهه، يمكننا الشعور بهذا في رواياتها، غوصها في وعي الشخصيات وكأنها تعيش داخل عقولهم، ترى ما يرونه وتشعر بما يشعرون به. في “السيدة دالاواي” هناك انتقال سلس بين ذاكرة الشخصيات، تجعلنا نشعر وكأننا نعرفهم جيدًا، في فقرات قصيرة تنجح في سرد حياة كاملة، وإثارة التعاطف مع شخصيات رمادية. إنها تلك القدرة على تحويل الأمور العادية إلى غير عادية. عن تحويل مشوار سيدة في الثانية والخمسين لشراء الزهور، إلى رحلة كاملة لفهم البشر.
فوبيا الموت
أصبتُ بفوبيا الموت بعد رحيل جدِّي، كنت قد فقدت العديد من الأحباء قبل ذلك، لكن هذه المرة كانت مواجهتي الأولى والحقيقية مع الموت، شهدت بنفسي مراحل احتضاره على مر شهور، وفي اللحظات الأخيرة وقفت خارج غرفته أرتجف، أدركت أن روحه الآن تتسرب من مسام جسده، وشعرت بحضورها قويًا وثقيلاً حولي، عندما خَرَجتْ أخيرًا، نظرت إلى وجهه المرتاح بعد تعب، وارتجفت.
أمام القبر تملكني هذا الشعور القاسي والمؤلم بالغرابة، كنت أقف وبيني وبين جدي -الذي عشت معه عمري كله- مجرد جدار، جدار أزرق غريب يمنعني من رؤيته ولمسه، جدار بدا وكأنه بوابة عبر الزمان والمكان أخذَته بعيدًا إلى عالم آخر. شعرت بخوف ورهبة ولم أتمكن من التنفس، لم أتمكن من الفهم ولم أتأقلم إلى اليوم مع الفكرة.
بالنسبة إلى فيرجينيا كان الموت هو بداية رحلتها مع عدم الطمأنينة، رغبتها الشديدة في فهم العالم واستكشاف هذا الشيء غير الملموس الذي يسعى الجميع إليه كانت بسبب خوفها الدائم، عدم الطمأنينة يمكن أن يؤدي إلى الجنون والإنهاك؛ كيف يمكن أن تستقر الحياة وهذا الشعور يسيطر عليها ويمنعها من النوم أو الأكل أو الراحة؟!
عندما ماتت أمها انهارت فيرجينيا، ليس بسبب الفقد فقط، بل بسبب خوفها مما يمكن أن يحدث لها بعد اختفاء مصدر من مصادر أمانها. إن كان أخوها غير الشقيق قادرًا على انتهاك جسمها في وجود الأم، فما الذي يمكن أن يفعله بعد اختفائها؟ شيء في أعماق فيرجينيا اهتز في هذا اليوم، فقدت روحها استقرارها وظلت هكذا متواثبة داخلها، ترتفع وتنخفض بمرور الزمن. كانت تستعيد هذا الخوف كلما فقدت المزيد من أحبائها، ثم مع موت شقيقها طوبي ثبت الخوف داخلها، بدا وكأنه هو الشعور الأوحد والدائم، بالذات مع تداعيات الحرب العالمية، والتهديد بدخول القوات النازية إلى لندن. لكن الخوف تحول بعد ذلك إلى التأقلم مع الموت، وفي تفهم أنه النهاية الحتمية لكل شيء.
فيرجينيا وولف هي كل الكاتبات
شفافية فيرجينيا وولف منحتها الحكمة غير المحدودة، تبدو لي وكأنها جمعت كل شيء. فيرجينيا تشبه مي زيادة في حبها للكتابة، في اجتماعاتها بالأدباء والكتاب أعضاء جمعية بلومزبري كل ثلاثاء، حتى أنهما تشتركان في نفس البرج: برج الدلو. تشتركان أيضًا في الأفكار المتزاحمة داخل عقليهما، في خضوعهما فترة طويلة للعلاج النفسي. تقاسمت فيرجينيا وولف ومي زيادة الاكتئاب، وتوفيتا في نفس العام 1941.
تشبه فيرجينيا وولف إيلينا فيرانتي في شعورها الدائم بالذنب، في حبها للعناصر ورؤيتها الحية للطبيعة، كل الموجودات تتجسد لتصبح رموزًا، وكل شخص يملك جانبي الخير والشر بلا زخارف ولا تجميل. تشترك فيرجينيا وإيلينا في المكاشفة، في القدرة على الاعتراف بالخطايا عبر الكتابة.
تشبه فيرجينيا نوال السعداوي في المقاومة، في الدفاع عن حقوق المرأة والمطالبة بالمساواة، في الرغبة في بعض العزلة، في الاحتياج إلى غرفة تخصهما وحدهما. وتشبه فاليري سولاناس في التشبث بالكتابة، في التواصل عبر الكلمات، في التمرد وأيضًا في التروما النفسية بسبب التعرض للعنف الجنسي خلال الطفولة من أفراد العائلة.
تشبه فيرجينيا عنايات الزيات في رؤيتها الفريدة للعالم، في اكتشافها أن الموت هو ما يمنح للحياة قيمة، في رغبتها في نيل التقدير الذي تستحقه، في الإحساس بالمرارة والتشكك في القدرات. وتشبه إيمان مرسال في الغوص في التفاصيل، في الارتباط الوثيق بكيان “الأم”، في تحول الحياة بعد وفاة الأم إلى شيء هلامي سعتا إلى فهمه وتطويعه، نجحتا في بعض الأحيان وفشلتا في أحيان أخرى.
تشبه فيرجينيا سوزان سونتاج في الهشاشة المخفية داخل إطار زجاجي، في اضطراب الهوية وعدم الاتزان، في الرغبة في الخلود، والإخلاص للكتابة، في النظر إلى داخل روح الإنسان، واستكشاف العالم بطريقة مختلفة. تشبه أروى صالح في تفهمها، في إدراكها لخطوتها القادمة، في تقبلها للنهاية، ومعرفتها بأن لا بد من وضع حد للحياة في لحظة ما، اللحظة التي تتوقف فيها عن الاستمتاع بأيّ شيء، تتوقف فيها عن الرغبة في العيش.
فيرجينيا وولف لم تختفِ تمامًا، هي تتجسد بين الحين والآخر في أرواح الفتيات، مثل شهد، الحالمات المذعورات اللا مطمئنات. وفي أفكار الكاتبات الحالمات، القويات، المتوحدات، المنعزلات، الراغبات في التواصل والفهم، الناظرات صوب الحياة والموت.
اقرأ أيضًا: مي زيادة: لعنة الجمال والموهبة
اقرأ أيضًا: إلينا فيرانتي: التخلص من ذنب الأمومة
اقرأ أيضًا: نوال السعداوي: العزلة ضريبة التمرد
اقرأ أيضًا: فاليري سولاناس: عندما تخذلنا الكتابة
اقرأ أيضًا: في أثر عنايات الزيات وإيمات مرسال ج1
اقرأ أيضًا: في أثر عنايات الزيات وإيمات مرسال ج2
اقرأ أيضًا: سوزان سونتاج:الهشاشة خلف جسد زجاجي
اقرأ أيضًا: أروى صالح: الوقوف على ناصية الحلم