عن أعراض كرب ما بعد الصدمة: هل نحن كما نبدو عليه حقًا؟

2525

هل نفسياتنا ذات طبقة شعورية واحدة، بحيث نفهم كل الدوافع وراء أفعالنا وتصرفاتنا، وندرك مشاعرنا، ويبدو كل هذا واضحًا مفهومًا للعيان؟ ربما لا تكون هذه هي الحالة في جميع الأوقات، لأن المصابين باضطراب كرب ما بعد الصدمة يعانون من أجل فهم تصرفاتهم، التي تندفع خارجة منهم في بعض الأحيان رغمًا عن إرادتهم. في فيلم “الحرب في المنزل”* عانى البطل، جيريمي كوليير العائد من حرب فييتنام والمصاب باضطراب كرب ما بعد الصدمة من محاولة فهم تصرفاته والتأقلم مع الواقع الجديد له، وإفهام المحيطين به ما يشعر به ويكابده.

كرب ما بعد الصدمة
جيريمي كوليير في فيلم “الحرب في المنزل”

ما هو اضطراب كرب ما بعد الصدمة؟ ومَن يصاب به؟

تُعرّف الجمعية النفسية الأمريكية اضطراب كرب ما بعد الصدمة Post-traumatic Stress Disorder بأنه اضطراب نفسي قد يصيب مَن يتعرضون لحادث صادم أو يشهدون حدوثه، مثل الكوارث الطبيعية أو حوادث الطرق أو الأعمال الإرهابية أو أعمال الحروب أو الاعتداءات الجنسية أو غيرها من الصدمات، ويشعر المرء خلال تلك الخبرة بالخوف الشديد أو العجز الشديد أو الرعب الشديد، أو كل هذا معًا.

وقد تصاعد الاهتمام بهذا الاضطراب مع الحروب، بداية بتسميته بـ”صدمة القصف” بعد الحرب العالمية الأولى، وصولًا لإعطائه التسمية الحالية بعد انتهاء حرب فييتنام في سبعينيات القرن العشرين. لكن مَن يعانون منه لا ينحصرون في ضحايا الحروب فقط، بل تتسع الدائرة لتشمل أنواعًا أخرى من صدمات الحياة العادية، لدرجة أن الإصابة بكرب ما بعد الصدمة شائعة أكثر مما نظن.

هل في الحياة العادية متسع لاضطراب كرب ما بعد الصدمة؟

كرب ما بعد الصدمة
والدا جيريمي كوليير

في المعتاد، لا يريد الناس معرفة أي شيء عن المتاعب النفسية أو الفظاعات الموجودة في العالم الخارجي. ففي فيلم “الحرب في المنزل” كانت والدة جيريمي تحاول التصرّف بعادية، لأن تقريبًا التوّجه المعتاد للبشر كان وما يزال أن يتصرّف الإنسان بطبيعية تمامًا بعد حلول المصائب، كأن شيئًا لم يحدث، ولا يتكلّم عن الأشياء السيئة التي وقعت. كانت تأمل أنها إذا لم تتحدث عمّا حصل له في حرب فييتنام، فإنه سينسى ما رآه هناك، وسيعود للحياة الطبيعية كما كان قبلها. تسأله إذا كان يريد مشاهدة التليفزيون معهم أم لا، وتطلب منه أن يعزف لهم شيئًا على البيانو. تتجادل بعدها هي ووالده حول فيلم لإنجريد بيرجمان، مما يدفع جيريمي للخروج إلى الحديقة في محاولة منه للحصول على بعض الهدوء، وهناك تبدأ الأعراض في الظهور.


من أعراض اضطراب كرب ما بعد الصدمة

1. إعادة المعايشة

“على الرغم من التغطية الإعلامية المتزايدة في العصر الحاضر للحوادث الجسيمة ونتائجها، فما يزال هناك وصمة واضحة مرتبطة بالحديث عن التروما (الحدث الصادم). ونتيجة لذلك، يشعر العديد من الناجين أنهم في سبيلهم للجنون، أو أنهم بطريقة ما، مُقصّرين أو معطوبين، لأنهم يتعاملون مع التروما بطريقة أقل فاعلية ومهارة من غيرهم، الذين ينجحون في التعامل مع مواقف ضاغطة مشابهة، ولا يتأثرون بها مثلهم. (…) وأحيانًا ما يجد الأزواج أو الزوجات أو الآباء أو المعالجين النفسيين أو أعضاء العائلة أو حتى أكثر الأصدقاء قربًا منك عُسرًا في فهم ما مررت به.

ومع هذا، من المهم جدًا أن تفهم أنك لست بسبيلك نحو الجنون، ولا ضعيفًا أو معطوبًا. يجب أن تعرف أن ما تواجهه من مشكلات يعدّ رد فِعل شائع للأحداث الصادمة”. من كتاب “الحياة فيما وراء التروما“.**

كرب ما بعد الصدمة
بداية ظهور العراض على جيريمي كوليير

يجلس جيريمي في حديقة منزل والديه وحده لعدّة ثوانٍ فقط، ليجد بعدها رفاقه في الكتيبة يطالبونه بالصمت، وأن يزحف معهم نحو خطوط العدو الفييتنامي. يتطلع نحوهم بدهشة: ما الذي جاء بهم إلى هنا؟ لكنه لا يتساءل، ينصاع لأمر الصمت والمشي الحَذِر. يتقدمون للأمام بضع خطوات فيخرجون من الحديقة لتحيط بهم أشجار الغابة المظلمة، ثم تسقط قذيفة فوقهم فجأة وتنفتح عليهم النيران. يسمع أصوات الرصاص عالية، ويشمّ رائحة الدخان ويراه، ويجد رفيقه إلى جانبه ممددًا وقد أصابته شظية من القذيفة، ثم يصله صوت أمه مناديًا عدة مرات، لتسأله هل يحب أن يشرب الشاي أم الكوكا كولا. يدير بصره المفزوع حوله في كل الاتجاهات، ليجد أنه لم يترك حديقة منزلهم، وأن العرق يتصبب من جسمه كله غزيرًا، ويكاد العطش يفتك به، وتنفسه متلاحق بعنف. يحاول السيطرة على انفعالاته، ليخبر أمه بأنه لا يريد أن يشرب شيئًا الآن.

اضطراب

أعراض إعادة المعايشة

  • ذكريات مزعجة عن الحَدَث، مثل توارد صور أو أفكار عن الحادث الصادم.
  • المعاناة من أحلام مزعجة أو كوابيس متكررة ومتعلقة بالحادث.
  • معاودة الفلاش باكس “لمحات من الماضي” (أي التصرّف كما لو أن الأحداث ستعاود الوقوع في اللحظة الراهنة) والمعاناة من أفكار تسبب الخوف.
  • الشعور بالاضطراب نتيجة التعرّض لمشاهد أو أصوات أو أماكن أو أشخاص معينين، مما يستدعي تلك الخبرات المقتحمة المتعلقة بالحادث الصادم.
  • حدوث ردود فِعل جسمانية، مثل تزايد ضربات القلب، أو الدخول في حالة القتال أو الهروب الذي يصله المرء عندما يكون في حاجة للدفاع عن النفس، حتى عندما لا يكون هناك خطر محدق بالفرد، لكن تستثيره مذكّرات بالحادث الصادم.
-جميع الأعراض الواردة هنا مستقاة من كتاب “الحياة فيما وراء التروما”.

2. تجنّب المشاعر: كل شيء ليس على ما يرام حقًا

تطلب العائلة في فيلم “الحرب في المنزل” من ابنها استئناف حياته ببساطة، وأن يعود للجامعة ويفكّر فيما سيفعله في المستقبل، وأين سيعمل. لكن ما لا يدركونه أنه بالنسبة له لا يوجد مستقبل. لقد عَلِق في تلك المرحلة في فييتنام، وحتى لو أصبح في وقته الراهن في الولايات المتحدة، فهو ما يزال هناك، وسط الغابات الغادرة والسماوات المظلمة التي تنيرها قنابل النابالم.

تتعقد أحداث الفيلم بحلول اليوم التالي، يوم عيد الشكر الأمريكي، حينما يأمر الأب الجميع بالتصرف بعادية لأن أخته وأسرتها الصغيرة ستحضر على الغداء. يرفض جيريمي الانصياع، ويرتدي ملابس الميدان العسكرية، معللًا ذلك بأنه “هذا ما ارتديته في عيد الشكر الماضي”، ويرفض النزول لمشاركتهم الغداء أو الاحتفال، أو حتى الكلام معهم.

يرفض الوالد من ناحيته الاعتراف بأن ابنه ربما يعاني مشكلة في التأقلم، وذلك عندما حكت له ابنته عن محاضرة تلقوها في الجامعة بخصوص العائدين من الحرب. وبهذا التصرّف يعكس رفض المجتمع كله وقتها الاعتراف بأنه أجرم في حق هؤلاء الأبناء بإرسالهم لبلاد بعيدة وخوضهم حربًا لا داعي لها، كنعامة تدفن رأسها في الرمال. وبدلاً من مواجهة المشكلة ومحاولة الحصول على المساعدة، يتهم ابنته بإفشاء أسرار المنزل، ويحاول بعد ذلك التقرّب من ابنه بذكر لمحات من حياته وهو طفل، ويخبره حينما غلبت عواطفه عليه بأنه يشتاق إليه ولصحبته.

لا يستطيع جيريمي الردّ على والده، ويتركه ليتجه للحديقة ويداري دموعه، خصوصًا بعدما أخبره والده –بحسن نية ربما- بأن هناك “أشياء أسوأ يمكنها أن تحدث للمرء أكثر من ذهابه للحرب”، ويلمّح لحوادث السيارات، مثلما نسمع مَن يقول في حياتنا الواقعية “انظر للنعم التي بين يديك، لماذا لا تراها وتركّز على الأشياء السيئة التي حصلت لك؟” الأب لا يفهم ابنه، والابن لا يستطيع التعبير عن مشاعره، لأنه لا يعرف كيف يصفها.

كرب ما بعد الصدمة
جيرمي أثناء حديثه مع والده

أعراض التجنّب والخدَر العاطفي

  • محاولة تجنّب الأفكار أو المشاعر أو الذكريات المتعلقة بالحادث الصادم.
  • محاولة تجنب الأنشطة أو الأماكن أو المحادثات المرتبطة بالحادث.
  • صعوبة في تذكر أجزاء مهمة من التروما، وكثرة النسيان بشكل عام.
  • فقدان ملحوظ في الاهتمام بأنشطة كانت مهمة للمرء أو ممتعة قبل ذلك الحادث.
  • الشعور بالانفصال أو العُزلة عن بقية الناس.
  • ألا يملك المصاب سوى نطاق محدود من المشاعر، كأن يصعب عليه الشعور بالحب تجاه الأشخاص أو الأشياء، مهما كانوا مقرّبين له.
  • الشعور بأن المستقبل قصير، وتغيّر رؤية المرء له فيما يتعلق بالتفكير فيه أو التخطيط له.

ربما إذًا، يمكننا أن نلتمس العذر لجيريمي في كونه لا يستطيع التعبير عن مشاعره أو أفكاره، وأنه لا يمكنه الشعور بحب أمه له المتمثل في زيادة كوبه من عصير البرتقال أو حرصها على أن يجلس معهم وإشراكه في أحاديثهم، كي تخرجه من حالته تلك. جيريمي لا يملك إلا الابتعاد، لأن دوائر الإحساس لديه محترقة، ولا مجال لديه للشعور بالمزيد.

3. فرط الاستثارة من أعراض اضطراب كرب ما بعد الصدمة

في مسلسل “داونتن آبي” تدور أحداث الموسم الثاني منه في أثناء الحرب العالمية الأولى، وفي إحدى الحلقات يتعرّض المساعد الشخصي لكابوس عنيف يجعله يصرخ بقوة توقظ بقية الخدم. هذا المساعد كان في الجيش وسُرِّح لإصابته بـ”تعب في الأعصاب”، لم يعطوا له اسمًا، فقط هو تعب يجعله غير مؤهل لخوض الحرب على الجبهة، وأصبح بالتالي مضطرًا للعمل لكسب قوته، لكن مع المعاناة من تبعات كرب ما بعد الصدمة. بعدما أيقظ الجميع بصراخه أنه لا يريد العودة للجبهة ثانية، صاحت إحدى الخادمات الأكبر سنًا في الباقين “هل يبدو سلوكه لكم عجيبًا وهو العائد من الجحيم؟”***

تشمل أعراض فرط الاستثارة ما يلي:

  • صعوبة الدخول في النوم، أو البقاء نائمًا.
  • ردود فِعل جسمانية مبالغة، مثل زيادة ضربات القلب أو الرجفة أو التعرّق الزائد.
  • صعوبة في التركيز أو التفكير بشكل واضح.
  • فرط اليقظة، أو الشعور بالانزعاج والحذر بحثًا عن أي خطر محدق.
  • الفزع المبالغ فيه، مثل الإحساس بالفزع نتيجة لسماع أصوات مفاجئة أو عندما يأتي الناس من خلف المصاب، وهو لا يتوقع مجيئهم.

عقدة الناجي

هناك أيضًا بعض الأعراض الأخرى، مثل الإحساس بالذنب لأنه مَن نجا وغيره لم تسنح له الفرصة، وتسمى هذه الحالة “عُقدة الناجي”، والشعور بالخجل. الخجل ربما لأن هذه المشاعر بداخله، مشاعر يعدّها الآخرون غير طبيعية بشكل ما، لا يجب أن تكون موجودة أساسًا، كجزء من توجّه هائل وممتد منذ قديم الزمان لإخفاء كل ما يراه البشر قبيحًا والاحتفاء بالجميل المبهر. والنسيان، ينسى حبيبته السابقة، ينسى بقية ترنيمات عيد الشكر، ولا يستطيع عزف المقطوعات التي كان يجيدها على البيانو.

– ما الذي حدث لك؟

– ما الذي حدث لي؟ تعرفين ماذا حدث لي، أنتِ وكل شخص آخر.

– أنت لا تهتم بالآخرين وبمشاعرهم، أليس كذلك؟ لا تهتم سوى بنفسك.

اضطراب

وعلى الرغم من أن أغلب الأمثلة في هذه المقالة تشير للصدمات الناتجة عن الحروب أو المواجهات العسكرية، فإن أعراض اضطراب كرب ما بعد الصدمة هي نفسها تقريبًا لدى أغلب المصابين به وإن اختلفت أسباب الإصابة، سواء أكانت كارثة طبيعية أو صورة أو فيديو صادمًا على وسائل التواصل الاجتماعي أو في نشرات الأخبار، أو حوادث الاعتداء الجنسي أو غيرها من الأسباب. لكن، طبعًا، تظل الاختلافات الفردية موجودة في الأشخاص المصابين به والمحيطين بهم على حدٍ سواء. ما يهمّ فعلاً ما يصنع كل الفارق، أن يسعوا لتلقي المساعدة النفسية اللازمة، سواء من طبيب أو معالج نفسي ماهر، وأن يظل الحبّ موجودًا حتى ولو لم يفهموا ما يحدث أو أسبابه. ربما لم يحصل على أيهما جيريمي كوليير، بطل فيلمنا “الحرب في المنزل”، لكن هذا لا يعني أنها غير موجودة حاليًا، فالزمن تغيّر، ولا يجب أن ندع تأخر الطب النفسي لسبعينيات القرن العشرين يؤثر علينا في عصرنا الحالي. المساعدة موجودة، وتنتظر أن نسعى إليها.


مراجع

* فيلم “الحرب في المنزل The War at Home” من بطولة وإخراج إيميليو إيستيفيز، إنتاج شركة تاتش سكرين بيكتشرز Touchscreen Pictures، عام 1996.

** كتاب “الحياة فيما وراء التروما Finding Life Beyond Trauma” بقلم فيكتوريا إم. فولييت، وجاكلين بيستوريلو، كاليفورنيا، دار نشر نيو هاربينجر، 2007.

*** مسلسل “داونتن آبي Downton Abbey”، الموسم الثاني الحلقة الرابعة، كتابة جوليان فيلوز وإخراج بريان كيلي، إنتاج كارنيفال وماستربيس، لعام 2012.

المقالة السابقةما تحتاجين لمعرفته عن كرب ما بعد الصدمة، الأعراض والعلاج
المقالة القادمةكرب أمي

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا