وجوه تجعل للحياة معنى

657

بينما أنا عائدة من عملي بدأت قطرات المطر بالسقوط.. كانت تلك أول مرة يهبط المطر وأنا في الشارع هذا العام.. وبما أن المطر والبرد من أكثر الأشياء بالنسبة لي، وبما أن الطبيبة الخاصة بي أخبرتني أنه يمكن لابنتي بداخلي تمييز الأصوات، اتخدت قراري بأني سأقطع الطريق سيرًا للمنزل، وأخذت أحدثها عن تلك الأصوات التي تجعل الحياة ممكنة ومحتملة.

 

أخذني الحكي وسرحت في الوجوه المبتلة بمياه المطر من حولي، ثم سرحت في حياتي وفي تلك الوجوه التي تجعل الحياة مريحة وبها قدر من جبر الخاطر.

 

1)

لم أنسَه إلى الآن، ذلك الرجل الخمسيني الذي يعلو وجهه بعض علامات الكبر، شعره يخالط بياضه سواده ويكاد يغالبه. كنت أمر به يوميًا في رمضان قبل الماضي عند نزولي إلى عملي بعد الإفطار مباشرة. يتخذ دائمًا مقعده في الناحية الأخرى من الشارع أمام المقهى الذي يمتلئ برواده قبل أي شيء آخر. يشغلني ابتعاده عن الجمع وأحاول التفكير بقصة هذا الرجل في الحياة.

 

أراه يصلح أن يكون واحدًا من أولئك الذين يؤدون واجباتهم في الحياة دون انتظار كلمة شكر من أحد. أسرح في تفاصيل أفراحه وأحزانه وأرسم له مواقف لا أعلم افتراضية حدوثها، فأتخيله عندما علم بقدوم أول أحفاده، وأشعر بأنني أعرف رضاه الداخلي عندما علم بإصابته بمرض السكري مثلاً.

 

رجل طيب. توحي بذلك قسمات وجهه والرضا الذي يشع من ابتسامته الخافتة لجميع المارة.

من المحتمل أن يكون ذلك الرجل فارق الحياة، ومن المحتمل أن يكون كما هو، لكني لن يصيبني الملل في تخيله والدعاء له دومًا.

 

2)

“دي بنتي الرابعة”، هكذا تقدمني دائمًا، بصدق من المستحيل وضعه في خانة المجاملات. “طنط سحر” كما أناديها، أو”أم هديل” كما يلقبها الجميع.

واحدة من أكرم وأنبل من عاشرت. وهبها الله ثلاث بنات، أكبرهن تكبرني بثلاثة أشهر فقط.

 

قم بزيارتها في أي وقت وستجد دائمًا ترحيبًا حقيقيًا، بداية من صوتها المرحب عندما تدق جرس الباب فتجيبك من الداخل “مين؟”، وابتسامتها الودودة وحضنها الدافئ، إلى إصرارها على تقديم الأكل لك -أيًّا كانت ظروفها الاقتصادية- إن علمت أنك قادم من أي مكان سوى بيتك.

 

تسمع لجميع من يدق بابها طالبًا قلبًا حقيقًا، وتذهب بنفسها دون طلب إذا علمت أن أحدًا يمر بأزمة. هي واحدة من أولئك الذين فُطِروا على حب الخير للجميع، حتى الحيوانات التي تزور بيتها فتقدم لها الطعام بسخاء وتُردِّد “ممكن تبقى السبب في دخولي الجنة”.

 

“إن قابلتها في يوم ولم تشعر براحة فمن المؤكد أن الخلل بقلبك”، هكذا يردد كل من يعرفها. أعتذر إليها في النهاية عن أي تقصير، ولأن الكتابة لم تسعفني لوصف جمالها.

 

3)

تكشف عن رسغها لأتمكن من سحب عينة الدم لها. جاءتني تلك السيدة الأربعينية إلى المعمل لإجراء بعض الفحوصات. سألتها عن حالتها وتبادلنا الحكي. منحتني تلك الجروح المتفرقة ومكان الحرق في يدها ونسًا غريبًا، خصوصًا أنني ظللت خمسة أشهر من زواجي دون أي إصابات وحتى قبل لقائي بها بيوم واحد، فكنت جُرِحت بالسكين.

 

أشعرتني تلك الجروح برابط حقيقي بيننا نحن معشر النساء. كانت ودودة، وعندما علمت أنني متزوجة دعت لي “ربنا يجعله حنين عليكي، أصل أحسن حاجة لما الراجل يبقى حنين، ساعتها بس الست بتحس بقيمة اللي بتعمله”.

 

يمنحني دعاء المارة راحة واطمئنانًا ومددًا وإثباتًا لجود الله وعطائه، فأجدني دون وعي أطلب من الله أن يغرقني في بحر من الرضا.

 

تجعل الحياة مريحة وبها قدر من جبر الخاطر

 

المقالة السابقةالقذف بحجارة التنمر
المقالة القادمةwonder .. فتش عن الأسرة

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا