هم من يدفعوننا إلى النسوية

585

 

بقلم/ ريم ربيع

 

كنت أود بشدة أن أكون من أولئك النساء المقتنعات دائمًا بأنهن أنصاف دوائر غير مكتملة، خُلِقن بنصف عقل ونصف شخصية ونصف رأي ونصف اختيار، فأقر دائمًا بغبائي، لأن ذكائي يبعد الرجال، وأتظاهر بجهلي لأن الثقافة الزائدة شيء مخيف، وأُظهِر أقصى ما لديَّ من رِقة وضعف مصطنعين، حتى يشعر الرجل بقوته المزيفة أمامي.

 

وكنت أود أكثر أن أكون من أولئك اللائي يرين المرأة غير الرجل، وأنها الأقل احتمالاً ورجاحة في التفكير، فلا يعتد كثيرًا بحكمها ولا يؤخذ منها قول، ويُصنَّف حديثها دون الكلام الرشيد الذي لا يرتقي إلى حديث الرجال، فيدخل في نطاق “حكي النسوان”، إشارة ومجاز عن حديث فارغ ملؤه التفاهة والترهات.

 

وطالما استهوتني شخصية عائشة ابنة أمينة، في رواية “بين القصرين”، فتمنيت أن تقتصر صلتي بالعالم على فتحات المشربية الضيقة التي لا تظهر لي منها سوى أقدام الناس ورؤوسهم، أما أعينهم ووجوههم فلا أعرف عنها شيئًا، ثم يأتي سن الزواج فيتم شحني إلى أول متقدم، وأنتقل بهدوء إلى مشربية أخرى بها فتحات بنفس الضيق، أو ربما تخلو منها.

 

فالواقع يبدو مريحًا جدًا، فلا جدال ولا تمرد ولا عراك ولا ثمن فادح يأتي وراء كلمة “لا”، ولا أسمع همسات خافتة تلقبني بالمسترجلة في أفضل تقدير، أو في تقدير آخر ترميني بالخلل العقلي والانفلات الأخلاقي، فقط لأن آرائي الغريبة لا تلائم الهوى السائد.

 

هي فعلاً راحة أن تتبع الكتالوج وتسير على الطريق المرسوم دون انحراف، فلا يتعبك عقلك كثير الحركة بأن ربما هناك طريقًا آخر يجب عليك اتباعه، مما يعرضك لخطر المواجهة، تكون نتيجتها أن تُترَك منبوذًا وحيدًا كسائح أجنبي يمر بأرض غريبة، لا يعرف لغتها ولا يستطيع التواصل مع ساكنيها.

 

تلومني أمي دائمًا على تمردي وشذوذي عن القاعدة، وأن تلك النسوية البغيضة لن تجلب لي سوى العنوسة، مما يعني الخزي والعار، فلا يوجد رجل يقبل أن يكون له ند يجادل ويناقش ويعترض، هو من يجب أن تكون له الكلمة العليا والأخيرة، أو على الأقل فلنوهمه بذلك.

 

ولكن كيف لها أن تمنعني من شيء وهي أول من دفعني إليه؟!

ولماذا كان عليها أن تكون بتلك القوة والتحمل والثبات والشجاعة، فأستقوى بها وأتعلم منها؟!

ولماذا كان عليها أن تكون مصدر أماني المستمر الذي أنهل من أنهاره حتى أرتوي دون أن ينضب أو يجف؟!

ولماذا كان عليها أن تكون تلك اليد الصامدة الصلبة التي أسند ظهري إليها دون أن أخشى أن تنسحب من ورائي، فتتركني أنكسر وأتحطم.

 

أتذكر يومًا قالت لي فيه “أنا لا أخشى أحدًا أبدًا، فإذا اقتنعت بشيء أثبت عليه حتى لو وقف أمامي العالم كله”.. لم أنس يومًا تلك الكلمات، فهي حفرت نفسها بداخلي وكبرت وكبر إيماني وقناعتي معها، لذا فإن أي بديل آخر لن يكون ملائمًا لي، فلا تلومني إذًا وهي من جعلني أسير معها في طريق من الأشواك دون أن أهتم بأن تنغرس في قدمي.

 

وليست هي وحدها، بل عموم الرجال والنساء في مصر، ممن نكروا النسوية والنسويات واستغربوا فكرهن وآراءهن، فمارسوا ضده كل أنواع العنف النفسي والجسدي، ليؤدوا فكرهن بدلاً من ان يواجهوه.

 

هم من يدفعونا إلى ذلك عندما كبرنا ورأينا المجتمع يرتكز بثقل جسده كله على قدم واحدة، لتحمله منفردة، فكان لا بد للنسوية أن تظهر.

وعندما تترجح كفة الميزان لتنحاز إلى جانب على الرغم من أن الجانب الآخر ثقله أكبر، فكان لا بد للنسوية أن تظهر.

وعندما يصبح التنطع الذكوري المتصاعد على أكتاف النساء حقًا وأمرًا واقعًا، فلتكن حينئذ النسوية واجبًا ومقابلاً مفروضًا.

 

في الماضي على الأقل كان هناك ثمن للذكورية، يُدفَع مقابل السيطرة والهيمنة، حتى ولو كان مقابلاً ماديًا، أما الآن فلا ديون تُسدد ولا منافع تحصل، فقط سحب دائم على المكشوف من رصيد ليس له أصل، بالرغم من أن هناك مشاركة نسائية في الحياة بالمناصفة، وأحيانًا تتعدى النصف لتتحمل أعباء كاملة.

 

يلومون النسويات ويلعنون أفكارهن الضالة، ولم يفكروا لحظة واحدة في رؤيتها كرد فعل لذكورية قميئة وعدل غائب لا يستطيع العقل تقبله أو التأقلم معه، فنعم تغير الزمن وأضحى فتيات اليوم لسن كأمهات الأمس.

 

جعلوني فيمنست

 

المقالة السابقةسياسة الاستجداع العادل
المقالة القادمةمن حق الحامل تتدلع
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا