هل يستحق المدمن فرصة جديدة؟

733

على ضوء دراسة علمية تقول إن فاقد الذاكرة شخص جديد تمامًا، ليس فقط لا يشبه نسخته القديمة في الصفات، بل إنه قد يعاكسها، ظهرت معضلة فلسفية حيّرت العالم سنوات وسنوات: هل نحاسب المتهم فاقد الذاكرة على جريمة لا يتذكرها؟ حتى ونحن نعلم أنه لم يعد نفس الشخص؟

 

دع هذه المعضلة تأكل في عقلك الباطن الآن، وتأمل معي واحدة أخرى لكنها قريبة، هل تعتبر الكذبة كذبة إن لم يكن صاحبها يعرف أنه يكذب؟

أعني أن الشخص ظن نفسه صادقًا فعلاً في وعده، وكان قد أساء تقدير مهاراته الحقيقية فوعد بما عجز عن تنفيذه فيما بعد على أرض الواقع، هل نعتبره كاذبًا؟

 

أجب عن هذه الأسئلة في ذهنك وتذكر إجاباتك جيدًا، ثم اتبعني.

 

يختلف الكثيرون حول المدمن، أهو مجرم أم مريض، أيجب احتواؤه أم تجنبه ونبذه. وعلى الناحية الأخرى، كلما ذُكِر المتعافي تبعه الغفران ومصطلحات الفرصة الثانية، ليس الأمر أنني ضد الفرصة الثانية أو معها، بل أنني ضد النظر من زاوية واحدة فقط للأمور.

 

إن عدنا لذلك المتهم بالكذب، ووضعنا أنفسنا في محل من صَدّقه وراهن عليه ومضى مغمض العينين خلفه مؤمنًا به، وعاد مُحمّلاً بالخيبة فاقدًا في رحلته ما فقد، هل سيتأثر وجعه بأيما كانت نيّة الكاذب، أكان كاذبًا مع سبق الإصرار أم لا؟

 

تقول العديد من الدراسات إن الإدمان قد يولد معك كنوع من الاستعداد النفسي، قد يحيا به المرء ويموت دون أن يُدمن، ليس لأنه مستقيم السلوك وما إلى ذلك، بل لأنه لم يوضع في حياته تحت درجات كافية من الضغط النفسي الرهيب، لكي يتحرر الوحش في داخله (الاستعداد النفسي للإدمان).

 

أصبح بإمكاننا أن نتخيل الآن فتاة قابلت شابًا نظيف السجل من الإدمان تمامًا، تزوجته وأنجبت منه، ثم أصابته فاجعة فقدان عزيز أليمة، أطلقت الوحش بداخله، وقبل أن تستوعب ما يحدث من حولها، أصبحت مطلقة من مدمن بعد عدة كسور أبسطها هو ما نال من عظامها.

 

عشرات القصص يمكننا سردها في هذه المنطقة، لتخدم كل سيناريو محتمل للأحداث، متعافٍ ينتكس وآخر لا يعود أبدًا. سليم يدمن ومستعد للإدمان لا يصل إلى درجة الضغط المطلوبة. وبينهما المئات من الأنواع الفرعية. إذًا هل أريد أن أقول إنه لا شيء مضمون؟ بالضبط.

 

الأمر أشبه برعب كل رمية زهر وأنت في الصف الأخير في لعبة السلم والثعبان، تعد الخطوات مُصليًا ألا تقع قدمك في الخانة 98، تلك التي تكب فيها الثعبان فتعود إلى حيث بدأت.

 

وقفت كثيرًا عند لفظة متعافٍ، لِمَ ليس متماثلاً للشفاء؟ أو حتى ناجيًا مثل مرضى السرطان! وعلمت فيما بعد أن المدمن لا يتماثل للشفاء، بل هو في رحلة تعافي إلى الممات، طريق يتوازي مع خط عمره، ومع خط من يقرر ربط حياته به، طريق مزين بالخوف من كل مشكلة، بالشك مع كل هالة سوداء تظهر لأي سبب تحت العين، مع رعب مستمر من القادم الذي لا يؤمَن مَكْره، وليس طريقًا آمنًا ورديًا سهلاً كما يرسمه المثقفون المتفتحون الذين يتكلمون عن الزواج من المتعافين، ما داموا ليس لديهم أبناء في سن زواج.

 

لا أقول لا تعط فرصة ثانية، ولا أقول احكموا على المتعافي بالموت وحيدًا، بل أقول إن الخطوة كبيرة ومحفوفة بالمخاطر، الإقدام عليها يجب أن يكون محسوبًا والتوقعات فيها يجب أن تكون منخفضة، واحتياطات الأمان والقدرة على الاعتماد على نفسك عليها أن تكون على أقصاها.

 

وإن عدنا إلى تلك الإشكالية الفلسفية الأولى، فقد اتفقت الآراء التشريعية أن العقوبة تظل ساقطة عن المتهم ما ظلت ذاكرته مفقودة، على أن تعود واجبة النفاذ متى عادت له ذاكرته وعاد نفس الشخص الذي ارتكبها.

 

وأما عن المعضلة الثانية، فإجابتك عنها ستفيدك كثيرًا في الحكم على نفسك: هل أنت شخص يستطيع أن يقدم فرصة ثانية؟ تمتلك ثقافة العفو كاملة؟ تمتلك الوعي الكافي بكل مخاطر العودة من حيث بدأت؟

 

إن كنت لا تعتبر الكاذب كاذبًا ما دام لم يكن ينوي الكذب، ما دامت خديعته في نفسه هي نفس خديعتك أنت فيه، فأنت أكثرنا استعدادًا لتعطي فرصة ثانية، أما إن كنت تحسب الأمور من زاوية مشاعرك أنت وخسائرك أنت وحدك، وتعتقد أنك ستخرج من تجربة كتلك إلى أحضان المتعاطفين معك.. فلست النوع المطلوب للمهمة.

 

وللتوضيح.. هناك فيلم يدعى Small crimes أنصحك بمشاهدته، فيلم قد يحاكي في عقلك التجربة التي أنت بصدد الإقبال عليها، ليس لتعدل عن قرارك أو ترتعب، بل هي محاولة لاختراق الهالة المثالية الوردية والمليئة بالثقة والوعود والأحلام، وإضفاء بعض الإنصاف على الصورة المتكونة في ذهنك.

 

وعلى سيرة الأفلام، أتذكر أحد مشاهد فيلم “ويجا”، حين كان البطل يتحدث عن أن الخطأ صفة بشرية، فقاطعه شريف منير قائلاً: والعفو صفة إلهية.. ما دامت اقترنت بالمقدرة كشرط أول ووحي

المقالة السابقةلهذه الأسباب ألدك في أمريكا.. يا بهية
المقالة القادمةنصائح: تأثير المعاملة على نفسية الطفل
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا