محاولة أخيرة لإجابة سؤال مهزوم

969

“تساءلت عما حدث في إغفاءة ساعة.. لم تكن ساعة فقط على وجه اليقين، لقد نمت عصرًا كاملاً واستيقظت في عصر جديد. عدا ذلك فإنني مُفلِس ومُطارَد وذو حزن”.

تحت وطأة الكثير من الضغوط والمشكلات وإدمان اللَّف داخل الدوائر المُغلقة حَد الاختناق والشعور الهائل بالحيرة والتخَبُّط، يُرافقهم عدم قدرتي على الرؤية بوضوح، كان من الحَتمي الابتعاد قليلاً عن مركز الضوء، لعلني أستعيد قُدرتي على الاستبصار.

 

وها أنا وحدي على ضفاف البحر أشعر أخيرًا ببعضٍ من الخِفَّة والانفراج، ممتزجين بنوع من الوحدة المُحببة للنفس، مع شعورٍ أقل بالغُربة التي باتت تَنهَشنُي مؤخرًا على مهلٍ وبتلذذ.

 

“لِمَ لا نُسَجِّل اللحظات السعيدة لنصدقها فيما بعد؟”.

منذ بضع سنوات فقدت شعورًا سابقًا لازمني طويلاً بالانتماء للإسكندرية، وكونها ملاذ روحي الحقيقي، خصوصًا أنها المكان الوحيد الذي منحني ذاك الشعور ضمن كل البلدان التي تَنَقَّلت بينها، لذا فاجئني للغاية استعادتي هذا الشعور اليوم، وهو ما لم أكن أتَوَقَّعه إطلاقًا.

 

ورغم إدراكي أنني جسمانيًا لست ابنة هذه البقعة من الأرض، وعلى الأغلب هذا العالم، فإنني أستطيع الشعور بروحي، وقد استطاعت التَنَفُّس أخيرًا. كما لو أن الهواء هنا يُحيي، على عكس هواء القاهرة الذي تقتصر وظيفته على عدم السماح للعابرين بالموت، ليس حُبًا ولا شفقةً وإنما لأن المدينة لا تكترث من الأساس بمن يقطنونها.

 

لكن هنا الوضع مُختلف، فها هي روحي تكاد تنخلع من بين ضلوعي رغبةً في القفز داخل هذا البحر شديد الزرقة، تريد أن تضيع بين الأمواج فلا يعثُر عليها أحد، عساها تتخلص من مشكلاتها/ مشكلاتي فنتحرر من التزاماتنا تجاه الجميع.

 

“ها هي ذي الوحدة، بيت خالٍ ولكنه مكتظ بالذكريات والأشباح، قلب مُترع بالحزن والإثم”.

 

في الشهور الأخيرة صِرت أذهب لمعالجة نفسية مُدهشة، أعيد معها اكتشافي لنفسي، مرات أثناء عمل الواجبات، ومرات أثناء الحكي، وأخرى أثناء استماعي لاستنتاجاتها.

لأتعرَّف أخيرًا إلى الأسباب التي جعلتني المرأة التي أنا عليها الآن، فأفهم سِر شعوري الدائم بالوحدة، وأنجح بفَك شَفرة إصراري التام على الاعتماد على نفسي، الذي لم يكن إلا انعكاسًا لأزمة ثقة داخلي، تجعلني أتعامل مع ما حولي من منطلق “أنا بخير لكن العالم ليس كذلك.. بل هو مكان قاسٍ وغير آمن ولا يمكن توقعه”.

 

“طالَعني الواقع بوجهٍ صخري، يُناجيني بصوتٍ خفيّ أن قد تحقق كل ما حلمت به.. أريد أن أنسى الحلم، ولو بمضاعفة الحزن”.

تخبرني المُعالجة أنني Survivor.. خسرت خلال رحلتي الكثير، ومع أن حياتي كانت صعبة إلا أنني تفرَّدت في المقابل بملكات لم تؤت لسواي.

 

ولمّا كانت تنقُّلاتي الكثيرة لا يسهل التعايش معها، وأمام اعتيادي الفقد والاغتراب، قررت بوعي أو دونه النجاة بسلاحي الخاص.. “اللا انتماء” لأي شيء أو كيان، إيمانًا مني بأنه يمنحي شعورًا بالأمان ويقيني شر الانسحاق، إذا ما اضطررت مرة أخرى للرحيل أو داهمني الخذلان.

الأمر الذي يجعل الجزء الأكبر من حلول مشكلاتي يَكمن في التمكن من المُجازفة واتخاذ قرار بالانتماء لشيء ما، وتأكيد أنه ما مِن ضمانات لعدم ارتطام قلبي بالصخور فيتفتت.

 

“ما أسعد من لا يضيع خفقان قلبه في العدم!”.

الشعور بالتعلُّق يقتلني، سواء كنت أنا التي تعلَّقت أو كان هناك من يتعلَّقون برقبتي، وبالتالي فإن كل ما أُريده في هذه المرحلة من حياتي هو التخفف من أثقال الرحلة.

 

إذ ما الداعي من إجهاد الذات لكسب رضاء الآخرين أو ودّهم، إذا ما كان هذا الإجهاد لن يلبث أن يصبُغ قلوبنا بالمرارة إن لم يكن السواد؟! والأهم.. كيف يتصوَّر الآخرون أن سعادتنا بصُحبتهم قد تقبع يومًا خلف جسر هم حُراسه، شرط عبوره الوحيد تبريرنا الدئم لذلَّاتنا ورغباتنا التي لا تتفق مع قناعاتهم؟!

 

“علينا أن نتحمل حتى نبلغ النجاح المنشود”.

أسئلة كثيرة تتسابق داخل رأسي كل يوم، دون أن أملك سوى إفساح المجال لها، عساها لا تدهسني في طريقها نحو السراب. أجلس على الحافة أُراقبها بينما ترتطم بعضها ببعض عند خط النهاية، قبل أن تسقط في الهاوية، تزامنًا مع سقوطي أنا بالنوم.

وفيما أظنني قد تخلصت منها للأبد، إذا بها تعود من الموت صباحًا للتصارع من جديد، ومن ثَمَّ السقوط ليلاً، كما لو كانت جيشًا من “الزومبي” أو “الروبوتات”.

 

لا يهمّ في هذه اللحظة إلا الإمعان في السير، ليكن من شأنها ما يكون، ولتكن العاقبة ما تكون”.

هل يغرق “الزومبيز”، أو تُتلِف المياه المالحة “الروبوتات”؟ يُراودني هذا التساؤل أثناء جلوسي أمام البحر المُظلِم الذي تتشابه ظُلمَته مع العتمة التي تسكن رأسي، فتُراودني من جديد فكرة الغرق.. تُراودني الفكرة كنهاية سعيدة لا بائسة.

 

أراني أسير في تؤدة، مُرتديةً فستانًا أبيض فيما ينسدل شعر طويل على ظهري، يتداخل بين جنباته الهواء فأزداد حياةً، ويربت على كتفي رذاذ الماء المالح فأتصالح مع كل ما مررت به يومًا. بينما تتناوب على قدمي الرمال والموج فأشعر بدغدغة تُغريني أكثر بالاستمرار في الدخول نحو الأعماق.

 

“يُعجبني الجنون ولكننا عاجزون”.

لا أُريد أن أكون عاجزة بعد اليوم

لا أُريد دفع ثمن لقبولي

أريد استعادة البصيرة

أريد الطمأنينة

الهدوء

الحرية

والكثير جدًا جدًا.. جدًا من الأمل.

 

*جميع الاقتباسات من رواية “أفراح القبة” لنجيب محفوظ.

المقالة السابقةإلى ماجي
المقالة القادمةطوق نجاة
امرأة ثلاثينية متقلبة المزاج، أعشق الرقص على السطور كتابةً، أُحب الفن بمختلف أنواعه وأعيش عليه. والآن كبرت وصار عليّ أن ألعب في الحياة عشرات الأدوار طوال الوقت، لأستيقظ كل صباح أُعافر حتى أستطيع أن أُحاكي بهلوانات السيرك فأرمي الكُرات المُلونة بالهواء ثم ألتقطها كلها في آنٍ واحد.

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا