محاولات متتالية لإصلاح عطب الروح

692

محاولة أولى

الكتابة هي الملاذ الآمن.. أشعر بهذا كثيرًا في هذه الفترة بالذات، عندما يحدث لي عطب مفاجئ في الروح، أعراضه تتمثل في الصمت الطويل، في غصَّة مريرة في الحلق، في صعوبة التنفس والأرق المتواصل، فأقول لنفسي غدًا أو بعد غد سأكتب عن هذا كله وأصبح بخير.

 

هذه محاولة أولى إذًا، أفكر ما الذي يحزنني بهذا الشكل، ما الذي يتسبب في هذا البكاء الطويل والانقباضة المستمرة في القلب! أعرف الإجابة، لكني في ذات الوقت أحاول طمسها وتجاهلها، أهرب كعادتي من المعرفة، أحاول إبعاد مخي عن التفكير في التفاصيل وما بعدها، لكنها ماثلة أمامي وإن لم أعترف.

 

الفقد هو الجرح الكبير الذي لا يندمل، يحدث أن تتعايش مع ألمه شيئًا فشيئًا، يحدث أن تروِّضه وتعتاد عليه، لكنه لا يذهب أبدًا، لا يختفي ولا تخف حِدته، يبقى هكذا جاثمًا على القلب، يحل جزءَا منه بلا مقاومة، يظهر بالذات في الليالي الوحيدة ومع المصائب الجديدة، والصدمات المتتالية.

الموت هو الفقد الذي لا يعادله شيء، لكنه مُنتهٍ وباتر، يغلق الباب على حلمك ويصغّر بقية مصائبك، فتتألم، لكنك تعتاد أي فقد أدناه.

 

محاولة ثانية

يقف جدي على باب الفصل، يسأل المُدرِّسة عني فتشير لي، أهرع إليه وثمة شعاع من أمل ينبت في عقلي، يناولني كيسًا بلاستيكيًا ممتلئًا بالساندويتشات والفاكهة، كنت قد أعددته لنفسي هذا الصباح قبل المدرسة لأتناوله في الفُسحة، لكني نسيته تمامًا قبل النزول، استسلمت لحظي السيئ ولجوعي الكبير، لكن جدي يأتي على باب الفصل فجأة، بعد أن أرسلته أمي بالكيس.

 

“ماما قالت زمانك زعلانة، أصلك كنتِ مبسوطة وإنتِ بتحضَّريه فقلت أجيبهولك”، لا يُظهر جدي طيبته سوى بالأفعال، يعتقده البعض لا مباليًا، يرونه حاد الطباع وغامضًا، وأراه أنا بطلاً دائمًا ومستمرًا، أتذكر كنزته الصوفية الخشنة تحتك بأنفي وأنا أجلس خلفه على دراجته، يصحبني لدرس الإنجليزية البعيد حتى لا أذهب مشيًا على القدمين، في وقت كانت فيه سيارات الأجرة ترفًا لا تتحمله أسرتي المتوسطة، يضع لي وسادة رفيعة جدًا خاطتها جدتي بنفسها، حتى لا يضايقني حديد الدراجة الحاد، أتشبث به وينطلق هو بلا كلل، لا يتحدث كثيرًا، لا يفكر سوى في إعادتي سالمة.

 

محاولة ثالثة

يرقد جدي في غرفته لا يقوى على الحركة، أتردد في الدخول خوفًا من أن لا أرى صعود وهبوط الهواء في صدره، أخاف من الموت وأخاف انتظاره، وأشفق عليه من هذا الانتظار، أفكر: هل يعرف؟ هل ينتظر؟ هل هو خائف مثلي؟ لكنه لا يتحدث كثيرًا، يتألم فأدعو الله أن يخفف عنه. يتململ فأدعو الله أن لا يدخلني في هذه التجربة.

 

فقدان الأحباء يحدث كل يوم، لا سبيل لإيقاف ذلك ولا تعطيله، لكن الفقد فقد، لا يتغيّر بمرور الزمن، ولا تخف حدته بالتوقُع.

 

محاولة رابعة

أضع ابتسامة على وجهي وأذهب، أقابل الأصدقاء، أقيم حفل توقيع، أتسوق، أضيّع الوقت، إن سألني أحد ماذا بي أجيب برد مُعد مسبقًا، برد شديد يؤثر على صوتي وأنفي، أبدو وكأنني لا أتوقف عن البكاء، أو كأنني قد انتهيت فورًا، الحقيقة أنني لا أبدو ولا أتظاهر، لكنني أجيد إخفاء هذه التفاصيل التي لا تعني أحدًا سواي، أعلم أن الدافع قد يكون غريبًا للبعض، جدي عاش عمرًا طويلاً، استمتع بكل شيء، زوَّج أحفاده ورأى أولادهم، لكن هذا الحزن لا يتوقف، حزن الشعور بأن فراغًا كبيرًا يطاردنا جميعًا، يهدد باحتلال جزء من هذا البيت وهذه الذاكرة، وهذا العمر الطويل.

 

هل ثمة علاج للفراغ الكبير في القلب؟ لهذا العطب في الروح، سوى الاستمرار في هذه المحاولات للكتابة؟ سوى الاستمرار في التظاهر بالمرض، سوى الاستمرار في التظاهر بالسعادة؟

لا يوجد؟

إذنًا لنكمل..

المقالة السابقةماذا لو لم يعد لدينا أهداف؟
المقالة القادمةطبق سلاطة لا ينتهي
روائية وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا