مبروك جالك طفل واكتئاب

922

كنت أترجم موضوعًا صحفيًا عن مذيعة أمريكية تلتقط صورة لكل لحظة تقضيها مع ابنتها، كاعتذار عن ابتعادها عنها قصدًا بعد ولادتها مباشرة، فشعور المذيعة بالصدمة النفسية والجسدية من المسؤولية الملقاة على عاتقها جعلها لمدة 7 أشهر رافضة التعامل مع ابنتها أو حملها بين يديها.

 

بعد نشر الموضوع، أخبرت زملائي في العمل أنني شعرت بالشفقة تجاه تلك الرضيعة الصغيرة التي رزقها الله أمًا بلا قلب ولا مشاعر، فما ذنب الصغيرة في عدم إحساس أمها بالمسؤولية؟! وما هي الأم التي ترفض التعامل مع رضيعتها التي حملتها بين أحشائها؟! ولم أكتفِ بهذا، بل اعتبرت ذلك جزءًا من الثقافة الغربية التي تتعامل بجمود ولا مبالاة تجاه مشاعر الأمومة مقارنة بما يحدث في البلاد العربية.

 

في ذلك الوقت كنت حاملاً في طفلي الصغير..

وفي أول مرة نخرج فيها أنا وصغيري مع الأصدقاء -كان عمره لا يتجاوز 6 أشهر- قلت في معرض الحديث إنني في الشهر الأول والثاني بعد الولادة كنت أخشى النوم بجانب رضيعي، فأتركه في سرير وحده بعد أن ينام.

 

كم علامات الاستنكار والدهشة التي حصلت عليها من حولي كان كبيرًا، وانتقادات لاذعة بشأن القلب الحديدي الذي رزقني الله به في التعامل مع الصغير البريء، بينما أثنى آخرون على ما فعلته باعتباره سيجعل صغيري أقل تعلقًا بي عندما يكبر، ولكن لم أفعل شيئًا سوى الصمت، فقد شعرت بغصة من وصف “القلب الحديدي” وأنا أبذل كل جهد ممكن في التأقلم مع عالمي الجديد، وذاك الكائن الصغير الذي يعلمني كل يوم شيئًا جديدًا عن نفسي وعنه هو شخصيًا.


بعدها بشهور قليلة كنت أجلس مع أقرباء لنا وكنا نضحك على موقف ما، لتتنهد إحداهن وهي تخبرني أنها لا تصدق أنه أخيرًا ظهرت على وجهي علامات الفرح، وتوقفت عن إخبارهن بشعوري بالاكتئاب، فسأل أحدهم باستهجان شديد “وهل هناك أم في الدنيا تشعر بالاكتئاب ولديها طفل صغير بريء؟!”، لم أستطع الرد، فقد كنت أحارب مشاعر الاكتئاب بعدم الحديث عنها، ولكن أمي أجابت بأنني أعتاد تدريجيًا على وظيفتي الجديدة، وهي أن أكون أمًا.


بعد الذهاب إلى البيت ونوم صغيري ظلت الكلمات ترن في أذني وعقلي، “اعتادت أن تكون أمًا”، “هل هناك أم تشعر بالاكتئاب؟!”، وغيرها.. والحقيقة أنني لم ألُم قائلها، فأنا نفسي قلتها عندما انتقدت تلك المذيعة الأمريكية بقسوة دون أن أعلم شيئًا عن فكرة الأمومة، فقط ما يصوِّره لنا المجتمع عن أنها مهمة مقدسة ستبذل فيها الأم الغالي والنفيس دون التطرق للحديث ولو لمرة واحدة عن نفسية تلك الأم، أو الاهتمام بمشاعرها الداخلية في ظل تغير شكل حياتها كليًا ومعاناتها في التأقلم على الأمر.. لذا بالطبع يكون الحديث عن اكتئاب ما بعد الولادة ضربًا من الخيال.. وشيئًا مستنكرًا.


اكتئاب ما بعد الولادة قد يعتبر مصطلحًا جديدًا على المجتمع، ولكنه معترف به منذ بداية التسعينيات في الغرب، ويصيب من 40 إلى 80% من الأمهات، وأسبابه إما بيولوجية بسبب اضطراب الهرمونات لدى المرأة بعد انتهاء عملية الحمل والولادة، وإما أسباب نفسية، والتي يكون على رأسها الإرهاق الشديد والتعب لما تبذله المرأة من جهد مضاعف في رعاية الطفل الصغير.

 

أما الأعراض فتختلف بحسب كل حالة، ولكن أهمها هو فقدان الاهتمام بالأشياء، اليأس، الحساسية الشديدة، العصيبة والغضب لأتفه الأسباب، وتزيد تلك الأعراض في المجتمعات العربية، حيث تخشى النساء من الحديث عن الأمر، حتى لا تتعرض لانتقادات واسعة، وأكثر الطرق الناجحة لمقاومته هو تقديم الدعم النفسي للمرأة ممن حولها، خصوصًا أسرتها، بحسب دراسة “زينب سحيري” الجزائرية “اكتئاب ما بعد الولادة لدى الأم – أعراضه ونتائجه”.


عند تقييم مشاعري بعد إنجاب طفلي حتى الآن، وجدت أنني أصبت باكتئاب ما بعد الولادة لفترة من الوقت، وكان متمثلاً في عدم الرغبة بالقيام بأي شيء على الإطلاق، وأحيانًا إغلاق غرفتي عليَّ أنا وطفلي وحدنا دومًا عندما يوجد أشخاص حولنا.

 

وعند الحديث مع صديقاتي من الأمهات، لم تنكر أي واحدة أنها تعرضت بشكل أو بآخر لاكتئاب ما بعد الولادة، هناك من أخبرتني أنها كانت تبكي طوال الوقت، وأخرى كانت تصرخ أحيانًا في البيت على أي شيء وأحيانًا في طفلها، وثالثة قررت ترك رضيعها لوالدتها للاهتمام به لفترة، ودومًا الأسباب مختلفة، فالشعور بالخوف من المسؤولية الكبيرة التي وجدن أنفسهن فيها فجأة، أو الشعور بالقلق من اختفاء شكل الحياة التي اعتدن عليها، أو الضغوط الشديدة التي تصاحب وجود رضيع صغير له احتياجات مختلفة، أما أكثر ما عبَّرن عنه شعورهن بالألم والضيق لعدم تقدير من حولهن للأمر، بل واستنكاره.

 

الآن لم أعد ألوم تلك المذيعة الأمريكية على ما فعلته، بل على العكس، صرت أحسدها على قدرتها على التعبير عن مشاعرها من ألم واكتئاب خلال فترة الولادة دون خوف من انتقادات أو هجوم، بل وجدَت من يُقدِّرها وينشر قصتها في الصحف باعتبارها قامت بأمر شجاع عندما تحدثت عن الأمر وحاولت إصلاحه، وذلك مقارنة بمجتمعنا الذي لا يسمح للمرأة بالشكوى من المسؤولية الضخمة على عاتقها بعد الولادة وقليلاً ما يقدم لها الدعم الكافي، ويصبح يا ويلها لو قالت إنها مصابة بـ”اكئتاب ما بعد الولادة”.

المقالة السابقة5 وصفات غداء غير متوقعة يُمكن تحضيرها في مج بالميكرويف
المقالة القادمة14 نصيحة مهمة للخناق العادل مع زوجك
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا