ما هو الحب الحقيقي؟

1118

بعض الناس عندما يدخلون في علاقة ارتباط يعتبرون الطرف الآخر كل شيء بالنسبة له، فمثلاً تعتبره أباها وأخاها وزوجها وصديقها وحبيبها، ويقرر هو أن يعوضها عن مرارة الأيام وقسوة أبيها أو غيابه، أو ينتظر هو منها أن تواصل رعايته كما كانت أمه تفعل، وتقبل هي هذا الدور.

 

يرتبطان، ويغلقان الباب عليهما، ويستغنيان بتلك العلاقة عما سواها، ولا يسمح أحدهما للآخر أن يقيم علاقة مع غيره، فينعزلان عن الأصدقاء والأهل، ويزيلان ما بينهما من حدود نفسية، فلا يعود لأي منهما خصوصية مع الآخر، ويوهم كل منهما الآخر أن أحدًا لن يحبه مثله، وأن الناس لا أمان لهم، يقومان بكل شيء معًا، ولا يفعل أي منهما شيئًا دون رضا الآخر. يخبرها أنها “مالية عليه حياته” وتخبره أن “ملهاش غيره”.

 

قد تبدو هذه العلاقة من الخارج نموذجًا لعلاقة حب رائعة، ولكنها في الحقيقة مليئة بالمصائب النفسية؛ في هذه العلاقة، يشعرها بأنه عاجز وقليل الحيلة وفي حاجة إلى مساعدتها وتشجيعها، وهي تريد أن تكون الزوجة والحبيبة الأصيلة التي تسانده وتتحمله وتتحمل ظروفه الصعبة. فتخطط نيابة عنه وتفكر بدلاً منه، تنصحه باستمرار وتتابعه، وتلومه عندما لا يتبع نصائحها. ترى نفسها على صواب وتراه على خطأ، فتسعى للسيطرة عليه.

 

هذه المواصفات قد تكون أكثر ملاءمة لعلاقة بين طفل وأمه، تتحمل سلوكياته الخاطئة لأنه ما زال صغيرًا يتعلم، تُعلمه التمييز بين الصواب والخطأ، لأنها أعلم منه بحكم السن والخبرة، تتابع مذاكرته، تنصحه كيف يتعامل مع أصدقائه، توبخه وتعاقبه عندما يخطئ ولا يطيعها.

 

دعونا الآن نتخيل العكس.. تُشعره أنها في حاجة دائمة إليه يحميها من شرور العالم، وتعتبره مصدر الحب والأمان، ويقرر هو أن يلعب دور الأب لطفلة صغيرة، فيتخذ القرارات نيابة عنها، يحدد لها من تُكلِّمه ومن تقاطعه، تتعلق به بشكل زائد وتعزله عن أصدقائه وأنشطته، وقد يمنعها من العمل ليكون هو المصدر الوحيد للمال بالنسبة لها، مما يضمن استمرار احتياجها إليه واعتمادها عليه.

 

لنكن واضحين.. ما سبق وصفه ليس حبًا، بل هو مرض. مثل تلك العلاقات بها مشكلات كثيرة جدًا، كالاعتمادية والتي يكون سببها شعور الشخص بالنقص، وبالخوف من التجربة والخطأ، وبالذنب، فيبحث عمن يلقي عليه بهذه المسؤولية ليتخلص من تلك المشاعر المزعجة. أما الطرف الآخر، المنقذ، الذي يتلقى تلك المسؤولية الملقاة عليه فهو يشعر بمشاعر تشبه الطرف الآخر، كالخوف والذنب والوحدة، فيحاول السيطرة على الآخرين وعلى الظروف ليشعر بالقوة الوهمية. يخشى الوحدة، فيشجع الطرف الآخر على الاعتماد عليه، أملاً في أن يطمئن ويشعر بالونس. يشعر بالتقصير وبعدم الكفاءة، يتعطش إلى الشعور بأن له قيمة في الحياة، فيبالغ في العطاء المادي والمعنوي. ولأن مرارة الذنب لا تقل، ولا وحشة الشعور بالوحدة تهدأ، فإنه ينقلب أوقات إلى وحش غاضب متسلط قاسٍ يصعب إرضاؤه.

 

في هذه العلاقة، يتوقف الطرفان عن النمو النفسي. مشاعر الخوف والذنب والنقص والوحدة تظل كما هي، بل تزيد. في هذه العلاقة يدفن الطرفان نفسيهما بالحياة، ويموتان نفسيًا. لقد تخلى كل منهما عن مسؤولياته الحقيقية، فألقاها على الآخر، وتشاغل بمسؤوليات متوهمة عن القيام بمسؤوليته الحقيقية تجاه نفسه. وبما أن الحياة ليست أبيض وأسود فقط، فإن هذا يحدث بدرجات.

 

إذا كان هذا ليس حبًا.. فما هو الحب الحقيقي؟

علاقة الحب الحقيقي ليست كاملة، وقد تكون فيها بعض المشكلات، كتلك التي سبق الحديث عنها، ولكن الفرق في أن طرفيها يسعيان إلى الوعي بنفسيهما وبما يحدث بينهما، فينموان معًا. كل طرف يمارس مسؤوليته تجاه نفسه وتجاه العلاقة، لا يلقي باللوم على الآخر، بل يبحث أولاً عما بيديه القيام به. لا يمحو أحدهما نفسه من أجل الآخر، بل يُعبِّر عن احتياجاته ومشاعره، ويسعى إلى نيل حقوقه. الحدود النفسية تظل قائمة، فلكل خصوصيته وأهدافه واهتماماته وعلاقاته، مع كثير من مساحات التلاقي.

 

في علاقة الحب الحقيقي، ينطلق كل واحد في الحياة وهو يحتضن حبيبه في قلبه، ثم يقتربان يستمدان الدفء والأنس والقوة من بعضيهما، ثم يبتعدان، ثم يقتربان، وهكذا. الحب الحقيقي توازن بين القرب والبعد، فلا هو قرب دائم لدرجة القيد، ولا هو بُعد دائم لدرجة الجفاء. الحب الحقيقي ليس قيدًا ولا عمى، بل هو وعي، وحرية، ونمو، ومسؤولية.

 

المقالة السابقةمربع ورقي صغير أجلس بداخله
المقالة القادمةثلاثة محاور ربما تغير حياتك كليًا.. أو عادي متغيرش

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا