ما فعلته بنا شيرين عبد الوهاب

574

هل علاقة مُعقدة بين وطن كمصر بكل تقلباته، وجيل كجيل الثمانينيات بغليانه واضطرابه وإحباطه وطموحه، علاقة كتلك توصف بمباشرة وتسطيح وكلمات كـ”مشربتش من نيلها.. طب جربت تغنيلها”؟ صراحةً يا شيرين شربت وغنيت ولم نصل إلى حل مُرضٍ، فهل علاقتنا بالوطن توصف وكأنها علاقة عاطفية مراهقة “ملزقة” دون أي عمق أو وصف لتخبط وتعقيد إحساسنا بالوطن؟ عمومًا لا تُلام شيرين كثيرًا الآن على اختيار الكلمات. المهم أننا قد نتفق على الإجابة إن استرجعنا وصف عم جاهين بعلاقته بالوطن:

أكرهها وألعن أبوها بعشق زي الداء

وأسيبها وأطفش ف درب وتبقى هي ف درب

وتلتفت تلاقيني جنبها ف الكرب

 امرأة من أبناء جيلنا بإخفاقاته وتعقيد علاقاته، في لحظة عفوية يقع فيها أغلبنا، نسيت أنها شخصية عامة وكلامها محسوب عليها، وتكلمت بإحساس صادق يتكلم به معظمنا في جلساتنا الخاصة: “هيجيلك بلهارسيا”.. نعم نقول ذلك في حواراتنا على المقهى، على الفيسبوك، مع أصدقائنا المغتربين. نقول الكثير من مثل ما قالت شيرين، ونغضب ونسب ونتمنى الهجرة. لكنه يبقى الوطن الذي نحِنُّ إلى حضنه في أيام الاغتراب، الذي حملنا أرواحنا على أكفنا وقدمناها في الثورة ولم نندم حتى الآن.

دعابة شيرين الثقيلة رأيتها كمرآة حقيقية لما يجول بداخلنا، أثارت في نفسي عدة أحاسيس، ورأيتها امرأة مصرية عفوية تشبهني كثيرًا في علاقتها بالوطن، علاقة مُحِب غاضب، أو قل علاقة حبيبة تسُب حبيبها صعب المراس في جلسات الأصدقاء، وتُعدد مثالبه، لكنه يظل حبيبها الذي تلبيه فور احتياجه.

 هل مصر موميا جميلة صورتها فوق النعش

يعشقها مجنون ينادي عليها ولا تطلعش

أعادني الحدث ليوم عرض فيلم “18 يوم” وانتقاد البعض لحواره اللاذع، فأكثر ما أثار الخلاف في نفسي: هل العيب فيما عرضه الفيلم مما يتعرض له المواطن المصري، أم العيب في أن المواطن المصري يتعرض لذلك فعلاً؟

بوجهة أخرى: هل العيب فيما قالته شيرين، أم في كونه حاصلاً؟ هل الإهانة الأكبر أن نسخر من تلوث النيل أم في ترك النيل ملوثًا؟

مصر الرمال العتيقة وصهدها الجبار

والنيل كخرطوم حريقة وحيد ف وسط النار

قد تكون أخطأت شيرين المقام، أو أخفقت في إضحاك الجمهور بدعابة ثقيلة في غير محلها.. لكن في حال وصفها بالخيانة وإهانة مصر.. ربما إن أنصفنا التحقيق فالأكثر إهانة لمصر من شيرين هو الأسلوب الذي تناول به الإعلام الحدث، فبدلاً من أن تتناول الصحافة الأمر مهنيًا والكلام حول ما رددته الفنانة وسياقه واتساقه مع الحالة، وتعمدها من عدمه، تناولت الكلام عن أصلها الشعبي وصورها غير الـ”فوتوجينيه” كما نشرتها إحدى المجلات الفنية.

إن دققنا النظر، فقد تعاطت الصحافة مع الحدث بأسلوب يشين المؤسسات الصحفية المصرية العريقة قبل أن يشين الفنانة، أسلوب المعايرة والردح. وفي سياق آخر كان ليتناول مثل نفس الصحفي بدايتها المتواضعة كمصدر فخر ومشوار كفاح، التي هي بالفعل كذلك.

أنا اللي مشيت أدور باشتياق وحنين

على مصر والمشي خدني من سنين لسنين

في معرض الحديث.. تقع مدينة إيفيان في حضن بين جبال الألب وبحيرة ليمان، بنى فيها أحد رجال الأعمال منتجعًا صحيًا سنة 1826، ثم باعه لرابطة المياه المعدنية، بعدها تكاثرت المنتجعات الطبية والفنادق لاشتهار المدينة بنقاء مياهها، وفي 1864 ربطتها فرنسا بخطوط السكة الحديد وجعلتها وجهة لأثرياء فرنسا.

في 1960 بدأ إنتاج مياه شرب إيفيان، وتُصدَّر حاليًا لـ125 دولة حول العالم، حيث ينتج المصنع 4 ملايين زجاجة سنويًا.

هكذا تتعامل الدول والشعوب مع شرايين الأرض، وقتها ربما نملك حق التنظير والمحاسبة لمن يتكلم في حق مياه النيل.

هل مصر نار صفصفت والنفخ فيها محال

والأرض نشعت على رمادها استحال أوصال

 نسيت الصحافة وجمهور السوشيال ميديا ونقابة الموسيقيين وكل من سن السكاكين للفنانة السمراء أنها نفسها من غنت “غالية بلدنا علينا وهتفضل ف عينينا”، نسيت كل من يسبنا ويستهجن حوارنا الغاضب أن جيلنا (الذي منه شيرين عبد الوهاب) أول من فكر وقرر ونفذ ثورة صادقة خالصة لوجه الوطن ورفع العتمة عن الفكر والإبداع.

بدقة.. لو وُضِعت شيرين تحت مجهر مُنصِف أكثر مما وُضِعت تحته، لظهرت شخصية مصرية خالصة، تعشق الأرض وتكرهها وتلعن أبوها بعشق زي الداء.

——–

الأبيات من قصيدة “على اسم مصر” لصلاح جاهين

 

المقالة السابقةنصايح مستخبية للتوفير في الميزانية
المقالة القادمةالدلوعة التي ساهمت في التقريب بيني وبين أمي

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا