لِمَ أحبّت جنيات الغابة الإنصات إليك؟

628

أريح ظهري إلى الوراء في طريقي للمنزل، وأتطلع لقمم العمارات ومساحة السماء من ورائها، وأتمنى لو كنت في طريقي الآن لمقابلته، ثانية.

لم يمضِ أكثر من أسبوع، وأريد تكرار التجربة: أرتدي أفضل ثيابي، وأحاول ضبط الكحل، وأجاهد لضبط الحجاب في المرآة، وعيني على الساعة.

 

بعد عدة محاولات، نزلت الشارع ركضًا بقدر ما تسمح لي عضلات ظهري القاسية، ومشيت أطعم الأسفلت الضربة تلو الخطوة، وأنصت لوقع الخطو محاوِلة تشكيل لحن منه، وأتجاهل قدر الإمكان الضجيج اللا معقول لأناس وسيارات وميكروباصات قررت فجأة أن تسدّ الشارع. داخلي مبتهج لأنني أخيرًا سأراه.

 

بلغت المحطة التي سأركب منها الباص الجديد، هو ليس جديدًا بالضبط، بل أنا من يستعمل هذه الخدمة لأول مرة. فكرّت أنني لو أخذت عربة خاصة، من ضواحي العاصمة إلى القاهرة الجديدة، ستكلفني الرحلة كثيرًا جدًا، بينما لو نقلت على خدمة الباصات هذه، سأوفِّر نحو نصف التكلفة تقريبًا، وأشتري بها قِرطًا جديدًا ملوّنًا.

 

وصلت للمركز التجاري بالضاحية حديثة البناء جدًا. طوال الرحلة وأنا أشعر بأنني مسافرة، فبعدما خرجنا أخيرًا من القاهرة هناك طريق تحوطه الصحراء من كل ناحية، يذكرني بالسفر إلى شاطئ البحر لتلتصق الرمال الذهبية بأجسامنا وتلسعنا القناديل، ونتمشى ليلاً لنأكل الزلابية وأطنانًا من الآيس كريم. قلت لنفسي: نعم نعم، أنا مسافرة الآن، سأنتقل من حالٍ إلى حال، من خنقة القاهرة إلى ضاحية تحمل سيارات أقل وسماء أرحب. وعندما وصلت ونزلت من الباص لفحني الهواء الدافئ وطيّر ذيل فستاني، رددت الجملة التي سمعتها في أحد أفلامي المفضلة: “كل شيء ممكن، لا حد أقصى لاحتمالات الفرح”.

 

عندما اتخذت مكاني أخيرًا في المقهى الذي اتفقنا على المقابلة فيه، خلعت نظارتي كي ألمعها، فلمحته بطرف عيني صاعدًا السلم. يا إلهي! هل هذه أول مرة أراه فيها فعلاً؟ لوّحت له بكفي وارتديت النظارة ثانية، جاء وسألني عن اسمي. قفزت على قدمي سعيدة وصافحته بحرارة، فردّ السلام مرتبكًا ثم خلع النظارة الشمسية. كان يرتدي واحدة سوداء تمامًا تخفي عينيه، فعندما خلعها عرفت لماذا؛ لا يمكن لهاتين العينين المرهفتين أن تُتركا لتواجها العالم، ليس من دون ساترٍ على الأقل.. آه، ها هو: نظارة أخرى شفافة، فأصبح يشبهني.

 

تحادثنا قليلاً، ثم قرّبت كرسيّ منه لأسمعه أوضح. في لحظة ما، كان يحكي عن شيء ما بصوت خفيض فلم أتبيّن ما يقول، وانشغلت أكثر في عدّ كم جنية غابات تتسابق لاتخاذ مكان لها، في المسافة الفاصلة بين رقبته وكتفه، لتنصت إلى ما يقول بوضوح أكبر. أخذت أنقّل ناظري بين الجنيات وعينيه، كيلا يلاحظ انشغالي فيسألني وأضطر لكشف سرّهن، لأنه لو رآهن سيختفين تمامًا، ولن يحظى بوجودهن الملطف في حرارة هذا الجو. ما كانت ألوانهن؟ لا أذكر تحديدًا، لكن لأعينهن جميعًا لون أسود، يتطلعن فيما بينهن ثم يلصقنها بخده، لا يحدن، فكأنما تصلهن ذبذبات صوته عبر شعيرات ذقنه القصيرة.

 

تبينت، عندما طلبت منه رفع صوته قليلاً، أنه كان يتحدث عن عمله في بناء هذه الضاحية الجديدة. سألته ماذا يعمل، فوجّه لي نظرة خفيفة بها بعض من اللوم، شرحت له أنني أعرفه منذ زمن، وأنني أعدّه -كما كتبت له في البطاقة الملونة- أبًا روحيًا لي ولكثير من أصدقائي، قبل أن يتغيّب “بالداخل” لسنوات طويلة، لكنني نسيت، صرت أنسى كثيرًا جدًا. وعندما قال بصوت منخفض أكثر ونبرة حزينة، أنه بنى هذا الطريق وشارك في تخطيط عدد من الفيلات التي تقع على الناحية الأخرى من المركز، لم أحاول أن أسأله إن كان فخورًا بما بنى أم لا. أعرف هذه الأرض التي يقف عليها، أرض من الأبيض المصفّر والرمادي، لا يستطيع فيها رؤية إنجازاته، فلو سألته سيضطر أن يكذب، أو أن يبرر لماذا لا يراها أعمالاً عظيمة، ويعود لمنزله مرهقًا من اضطراره للتبرير، مجددًا وثانية، ويرفض رؤيتي بعدها. أعرف تلك الأرض يا صديقي، لكنني لن أدّعي أنني أعرف شعورك جيدًا، لأن هذا الادعاء أقسى من أن يُحتمل.

 

أعطيته نسخة من كتابي، فتساءل إن كان هذا هو الثاني. شعرت بدهشة عظيمة وسألته كيف عرف أن هناك آخر! فضحك وقال إنني أرسلته له مع أخيه، أيام كانت الكتب والرسائل مسموحة لهم. أخذت بعض الوقت لأحاول تذكر متى فعلت هذا، فقال بنبرة هادئة إنني أرسلت معه كتابًا آخر لصديقة عزيزة لي، وإنه ارتبط بصوتها أكثر، عندما كانت تأتي ضيفة على الراديو، مع مذيعة يسمعونها فقط كي يستطيعوا التواصل مع العالم الخارجي، فعبرها كان بقية الرفاق يرسلون لهم رسائل تطمينية، ويهدون لهم الأغاني ورسائل حب. حاولت التنفس حينما سمعت هذه الجملة، فلم أعرف من قبل بهذا الأمر مطلقًا، وذكّرني حينما سمعته بلبنان أيام الحرب الأهلية، بكل الثقل والخوف والكآبة المحيطين بها.

 

تخطيت مسألة الراديو والمذيعة التي أقالوها فيما بعد، وحاولت التركيز مع مسألة وصول كتابي الأول إليه. حكى لي أنه، مع ندرة الكتب بالداخل، قرأ الجميع تلك النسخة، وأن باقي النزلاء رثوا لحالنا، لمّا حكيت في الكتاب عن مشاعرنا، حينما حاولنا التغيير فاستباحت عجلة مدام فورتونا (إلهة القدر عن اليونان) مشاعرنا وأعطتنا صفعات محترمة على أقفيتنا جميعًا. كدت أقول له “لكن هذا طبيعي، إن لنا مشاعر وإننا نُجرح ونحزن”، لكنني عدت لأمضغ ما عرفته في السنوات الماضية، نحن “آخر” شيطنة كل من له صوت مسموع، فأضحينا منزوعي الآدمية والشعور. هذا يفسّر كيف أنه عندما تعاطف الجنائيون مع بقية القضايا، عُزل صديقي وبقية صحبه في أماكن إقامة وحدانية، لا يكلمون أحدًا ولا يكلمهم أحد.

 

انفصلت عمّا أسمعه، وعمّا أشعر به أيضًا، وركّزت في محاولة مني لتحديد لون حدقتيه، هل هو أزرق فاتح؟ هل هذا لون السماء، مختلط بخضار العشب، مثلاً؟ أم أن ما أسمع عنه، من تركيز السُدم النجمية وتقطيرها في مساحة متناهية الصغر، لتحويها الحدقتان، فأصبح في عينيه نجوم وغبار كوني وربما كواكب كذلك، صحيح؟

 

انتهت المقابلة بمصافحات أكثر ودًا، على وعد بلقاء آخر، ومشيت وأنا أرددّ كلمات الأغنية “تيجي نحلم، بسما هادية، بوضع هادي، وناس رايقين؟”.

المقالة السابقة“شيخ جاكسون”.. رسم المستقبل بفرشاة الماضي
المقالة القادمةفي حب الفوضى

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا