ليالي أوچيني.. كيف تفسدنا الذاكرة؟!

766

“حبي ليك، عين الغلط، متأكدة.
عقلي بيسأل قلبي ليه بعمل كده؟
إنت الوجع اللي أنا مستحلياه
إنت اللي مش ممكن أعيش لو مش معاه
أنا مدمناك
مع إني عارفة إنك طريق آخره سراب
لا أنا قادرة من حبك أخف ولا قادرة أعرف الانسحاب”.

“صوفيا” الجميلة، التي تخبز كعكات القرفة والڤانيليا للمارّين وعابري السبيل والبهوات والسيدات الأنيقات. تُعِدُّ بيديها الفطور والشاي، وتبعث السعادة وتفتح قلبها وأذنيها، للمجروحين لتستمع لتعبهم.

“صوفيا” الجميلة تحملُ هي الأخرى في صدرها تعبًا وجرحًا غائرًا لا تشاركه مع كل هؤلاء الذين يشاركونها أوجاعهم، تحتفظُ به في صدرها ولا تُفضي به سوى للتاجر العجوز الذي يأتيها بما تحتاجه لصنع كعكاتها.

 

“صوفيا” التي تسطعُ كالشمس نهارًا، تطفِئ أنوارها ليلاً وتجلس وحيدة في الظلام لتواجه الحقيقة والتساؤل: “لو جوّانا ضلمة ننوّر الدنيا من حوالينا ليه؟!”.
النور الذي يضيءُ وجهها نهارًا لا يكفي لإزالة عتمتها في الليل.
تتخلَّى عن حبها لـ”عزيز” أمام تسلَّط أمه وضعفه أمامها، تحملُ له مشاعر اعتادت أن تقتلها حفاظًا على ما تبقّى من قلبها، ولأنها لم تَعُد تقوى على المعافرة.

“صوفيا” تحمل في قلبها ذكرى ممتدّة وأليمة، ابنها الذي لا تجرؤ أن تخبر أحدًا أنه في الحرب يحمل سلاحًا، ولا تعلم إن كان حيًّا أم ميتًا، تلك الذكرى التي لا تستقيمُ معها الحياة ولا يشقُّها النور.

“كريمة”، أو “كاريمان”، كُل الحُب الذي يمكن أن تراهُ في العالم الآن لن يكفي لإنارة العتمة في قلبها، بعد فقدها لابنتها الوحيدة، ولن يوقف نحيبها كل ليلةٍ وهي تقبّلُ صورتها، ولن يحوّل رسائلها من الحزن والبُكاء إلى السعادة.
ابنتها التي تعيشُ في أحضانِ آخرين في البلاد الباردة، لا يكفونها حنانًا على الأغلب ولا يستطيعون تدفئة قلبها الصغير.

“كريمة” التي تنصّلت من اسمها الحقيقي، وثقافتها وتعليمها وتاريخها كاملاً كي تبدأ رحلة البحث عن ابنتها. لن ترى النور مهما أضاءت في وجهها كشافاتُ الاستقبال والترحيب من الغرباء. لكن كل الذي تنصّلت منه سيظلُّ يطاردها دائمًا، كلّما سمعت حديثًا فرنسيًا وكلّما رأت فستانًا يشبه ما اعتادت أن ترتديه.

تسقط مشاعرها خطأً في حب “فريد” المتزوّج، وهي تعلم جيدًا أن ذلك هو “عين الغلط” لكن ذاكرتها التي أفسدتها تمنعها من الحُكم الصحيح. تشدّها إليه طاقة الاحتياج التي تجتاحها، فتنقادُ مشاعرها إليه مسلوبة الإرادة.

“جليلة”.. الصديقة الوفيّة، بصوتها العذب، وبيتها الهادئ المُحتوِي، وحلمها الطاغي، وطيبة قلبها الأبيض الذي تحتضن به كل من تعرفهم، تركت من خلفها أهلاً وصُحبة، لتُطارد الحلم المنشود في أن تكون مغنيّة مشهورة.

لم يتمكّن حُب “أمين” لها من شفائها من الوجع، لأنها وحيدة مهما أحاطها الونس، ووحدتها تنبع من ذاكرتها، مهما أحاطها الناس فإن ذاكرتها تُعيدها غصبًا إلى براثن الوحدة. وسيظلّ جذرها الصعيدي يشدّها دائمًا إلى الجنوب مهما اتجهت شمالاً أو غربًا.

“جليلة” لم تفكّر لحظة قبل أن تستضيف “كريمة” الغريبة، لأن ذاكرتها تخبرها أن هذه المسكينة وحيدةٌ وغريبة مثلك، فتحتضنها بلا أي ضمانات أو تأكيدات أنها ليست هاربة من العدالة أو أنها يمكن أن تجُر خلفها سيلاً من المشكلات.

“فريد”.. الطبيب الواعد الذي تلقّى تعليمه في باريس، وكان ينوي أن يواصل حياته هناك، لأنها تناسبه أكثر وتناسب أحلامه وتطلّعاته، لكن يأتيه خبر وفاة أخيه الوحيد كالصاعقة التي تفقده توازنه، فيتخلّى عن حياته وتطلّعاته ويعود إلى مصر، ليتخذ جُملةً من القرارات الخاطئة، في ظاهرها التعاطف وفِي باطنها محاولات مستميتة للحفاظ على شكله الاجتماعي وإرضاء عائلته.

 

“فريد” الذي يقتلُ كل مشاعره إرضاءً لغيره، لن يصبح “يوسف” أبدًا ولن يحب “عايدة” كما أحبّها “يوسف”، وكِبر المحاولة يمنعه من الاعتراف بذلك، ولكن مشاعره تخونه من آنٍ إلى آخر.

 

“فريد” قتل أحلامه بسكينٍ خاطفة، وضعت بينه وبينَ حياته السابقة ألف عقبة، فصار يقف في المنتصف لا يستطيع التقدّم في الحياة الجديدة، ولا يقوى على العودة لحياته السابقة.

الحياة التي تُبنى على وجع وجراح الماضي، تَكُونُ مرقّعةً بالظُّلمة، لا يستطيعُ الضوء أن يملأ جنباتها أبدًا، تمرُّ من خلالنا أشعة الحُب والونس، والارتباط والاحتضان والسعادة الخالصة لكنها تمرُّ مرور الكرام، لا نقوى على الإمساك بها لتبقى في داخلنا وقتًا أطول، ثم نتخبّط في الظلمة مجددًا.

الحبال المهترئة غير المقطوعة ولا الموصولة لا تتسبّب سوى في عرقلتنا وإسقاطنا على وجوهنا كلّما حاولنا التقدّم خطوة للأمام.

تلك الحالة من التردّد في قطع الحبل أو وصله تمنعنا من الحياة نفسها وليس من السعادة فقط، الحبالُ المهترئة يجب أن تُقطع أو توصل قبلَ أن تُسقِطنا في الهاوية.

حبال الذاكرة تلك هي التي يمكن أن تحوّلنا إلى أشخاصٍ لا نعرفهم، فنرتكب الخيانات المبرّرة، والكذب المتواري خلف الابتسامات، والتحايل على الآخرين بغية إرضائهم أو أخذ مصالح معينة منهم.
الذاكرة لديها القدرة على إفسادنا، إفسادًا ممنهجًا نبرّره لأنفسنا، لأننا موجوعون ومجروحون، لكنه في النهاية فساد كأي فساد.

 

 

 

المقالة السابقةعن ذوي متلازمة داون (4): التعليم الدامج
المقالة القادمةخروجات في رمضان غير الحسين
كاتبات

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا